الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لكن الراسخون في العلم منهم استدراك من قوله سبحانه: (وأعتدنا) إلخ، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا و(منهم) في موضع الحال أي: لكن الثابتون المتقنون منهم في العلم المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة، والمراد بهم عبد الله بن سلام ، وأسيد ، وثعلبة وأضرابهم، وفي المذكورين نزلت الآية، كما أخرجه البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - والمؤمنون أي: منهم، وإليه يشير كلام قتادة ، وقد وصفوا بالإيمان بعدما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المبني على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما مر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله سبحانه: يؤمنون بما أنزل إليك من القرآن وما أنزل من قبلك من الكتب على الأنبياء والرسل حال من (المؤمنون) مبينة لكيفية إيمانهم، وقيل: اعتراض مؤكد لما قبله، وقوله تعالى: والمقيمين الصلاة قال سيبويه وسائر البصريين : نصب على المدح، وطعن فيه الكسائي بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام، وهنا ليس كذلك؛ لأن الخبر سيأتي، وأجيب بأنه لا دليل على أنه لا يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف؛ لأن القطع لا يكون في العطف، وإنما يكون في النعوت، ومن ادعى أن هذا من باب القطع في العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      ويأوي إلى نسوة عطل وشعث مراضيع مثل السعالي



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكسائي : هو مجرور بالعطف على (ما أنزل إليك) على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 15 ] قيل: وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها، بل إظهارها بين الناس وتشريعها؛ ليكون وصفا خاصا، وقيل: المراد بالمقيمين الملائكة؛ لقوله تعالى: يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقيل: المسلمون، بتقدير مضاف أي: وبدين المقيمين، وقال قوم: إنه معطوف على ضمير (منهم)، وقيل ضمير (إليك)، وقيل: ضمير (قبلك).

                                                                                                                                                                                                                                      والبصريون لا يجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وقد تقدم الكلام في ذلك، وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام (لكن) المثقلة وضع موضعها (لكن) المخففة، ولا يخفى ما فيه، وبالجملة لا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن، وأن الصواب (والمقيمون) بالواو كما في مصحف عبد الله ، وهي قراءة مالك بن دينار ، والجحدري ، وعيسى الثقفي ، إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان - رضي الله تعالى عنه - فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا، فقد قال السخاوي : إنه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع؛ فإن عثمان - رضي الله تعالى عنه - جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟! وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وتأول قوم اللحن في كلامه - على تقدير صحته عنه - بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      منطق رائع وتلحن أحيا     نا وخير الكلام ما كان لحنا



                                                                                                                                                                                                                                      أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف، وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا، فتذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه، وينزل أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي، والعطف على ضمير (يؤمنون) ليس بشيء، وكذا الحال في قوله تعالى: والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر فإن المراد بالكل مؤمنوا أهل الكتاب، وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب، لا يعترضهم شك، ولا تزلزلهم شبهة؛ إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان، وأن من عداهم إنما بقوا مصرين لعدم رسوخهم فيه، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتاب على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم بكونهم عاملين بما فيها من الأحكام، واكتفي من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق - جل جلاله - وانقطاعا عن السوى وتوجها إلى المولى كسي المقيمين حلة النصب؛ ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية، فيا ما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم وصفهم بكونهم بالمبدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه، وإحاطتهم به من طرفيه، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة؛ لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما أولئك إشارة إلى الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن، المحكمة البنيان، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: سنؤتيهم أجرا عظيما خبره، والجملة خبر المبتدأ الذي هو [ ص: 16 ] الراسخون، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا، وتنكير الأجر للتفحيم كما مر غير مرة، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك، حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة (يؤمنون) وحمل المؤمنين على أصحاب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ممن عدا أهل الكتاب، والمناسبة عليه غير تامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب) الآية، كأنه قيل: لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء؛ لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرءوا من الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ووجوب اتباعك عليهم، فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى؛ إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي هذا عن قتادة ، وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ حمزة (سيؤتيهم) بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى: (المؤمنون بالله).

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية