الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدي في هذا الأصل وتتكلم عليه قال في كتابه الكبير المسمى "أبكار الأفكار" : المسألة الرابعة من النوع الرابع الذي سماه إبطال التشبيه في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى :

قال : "وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل [ ص: 19 ] النزاع ، فنقول : المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم ، كان ذاتا قائمة بنفسها ، أو صفة لغيره كالأعراض ، وأما ما لا وجود له كالعدم ، أو الأحوال عند القائلين بها ، فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم ، كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك ، أو النسب والإضافات ، فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها ، فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له : متجدد ، ولا يقال له : حادث" .

قال : "وعند هذا فنقول : العقلاء ، من أرباب الملل وغيرهم ، متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى [غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك] .

غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى ، بل قال أكثرهم : هو ما يفتقر إليه في الإيجاد والخلق ، ثم اختلفوا في هذا الحادث فمنهم من قال : هو قوله "كن" ، ومنهم من قال : هو [ ص: 20 ] الإرادة ، فخلق الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة ، لا أنه حادث بإحداث ، وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول ، على اختلاف مذهبهم ، فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث ، والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث ، ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين ، وهما السمع والبصر" .

قال : "وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم ، ولا يعود إليه منها حكم ، حتى لا يقال : إنه قائل بقول ، ولا مريد بإرادة ، بل قائل بالقائلية ، ومريد بالمريدية ، ولم يجوزوا عليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال ، بل قالوا أسماؤه كلها أزلية ، حتى في الخالق والرازق ، وإن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق" .

[ ص: 21 ] قال : "وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الأعيان ، فما كان منها حالا فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به ، غير أبي الحسين البصري فإنه قال : تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد المعلومات ، وما كان من النسب والإضافات والتعلقات ، فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها ، حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن ، وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن . وما كان من الأعدام والسلوب . فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى ، فلا يكون متجددا بالإجماع ، مثل كونه غير جسم ولا جوهر ولا عرض ، إلى غير ذلك . وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات ، فغير ممتنع أن يتصف به الرب تعالى بعد أن [ ص: 22 ] لم يكن بالاتفاق ، فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال : الرب تعالى موجود مع وجوده ، وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن" .

قلت : قد ذكر أن لفظ "الحادث" مرادهم به الموجود بعد العدم ، سواء كان قائما بنفسه كالجوهر ، أو صفة لغيره كالأعراض ، وسمي ما ليس بموجود كالأحوال والسلوب والإضافات متجددات ، وهذا الفرق أمر اصطلاحي ، وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث .

وأيضا فإن "الأحوال" عند القائلين بها ، منهم من يقول بوجودها ، وقالوا : يصح أن تكون معلومة تبعا لغيرها ، وأن يكون وجودها تبعا لغيرها .

وخالفوا أبا هاشم في قوله : ليست معلومة ولا مجهولة ، ولا موجودة ولا معدومة .

وأيضا فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية ، وأما المذاهب فيقال : لفظ "الحوادث" "والمتجددات" في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة ، وربما أفهم أو أوهم في العرف [ ص: 23 ] استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها ، إذا قيل : فلان حدث به حادث . وكثير منهم يعبر بالأحداث عن المعاصي والذنوب ونحو ذلك ، كما قد عرف هذا .

وأما مورد النزاع أنه : هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ، إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والاستواء عليه ، والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك ، وإما من باب الأقوال والكلمات ، وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك ، وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد . وإذا كان كذلك فقوله : "إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية ..... إلى آخره" ليس بنقل مطابق .

أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة ، صلوات الله عليه وسلامه ، أو ما أجمع عليه أهل العلم ، وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه ، مع منازعة غيره له ، فلا يجوز إضافته إلى الملة .

ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما ، ما يدل على قول النفاة لا نصا ولا ظاهرا ، بل الكتب الإلهية [ ص: 24 ] المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات .

وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتابعون لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة ، وشيوخ المسلمين المتقدمين ، لا يمكن أحد أن ينقل نقلا صحيحا عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة ، بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات ، فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر .

ولكن أهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات ، وذلك بعد المائة الأولى ، في أواخر عصر التابعين ، ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفي الصفات ، ولا بنفي الأمور الاختيارية القائمة بذاته .

فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة ، وقالوا : لا تحل به الأعراض والحوادث ، وأرادوا بذلك أنه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ، ولا فعل كالخلق والاستواء ، أنكر أئمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف .

التالي السابق


الخدمات العلمية