الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : في النهي عن نسبة الإذلال والإعزاز والتمادي والإنجاز للدهر وأن ذلك اعتراض على الصانع جل شأنه .

( الرابع ) : قد ولع الناس في شكوى الزمان والدهر والأوان ، وينسبون إليه الإذلال والإعزاز ، والتمادي والإنجاز ، والتأخير والتقديم ، والمهانة [ ص: 560 ] والتكريم وقد ذكرنا من ذلك طرفا وهو بالنسبة إلى ما لم نذكره كقطرة في بحر لجي ، وفي ضمن ذلك اعتراض على الصانع جل شأنه ، كما يفهم من كلام الحافظ ابن الجوزي ، بل هو صريح كلامه ستقف عليه . ومن الناس من صرح بالاعتراض ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه { يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار } .

وفي رواية لهما : { أقلب ليله ونهاره ، وإذا شئت قبضتهما } . وفي رواية لمسلم { لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر } . وفي رواية للبخاري { لا تسموا العنب الكرم ، ولا تقولوا خيبة الدهر ، فإن الله هو الدهر } .

وروى أبو داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل { يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر ، فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر ، أقلب ليله ونهاره } . ورواه مالك مختصرا ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا يقل أحدكم يا خيبة الدهر ، فإن الله هو الدهر } .

وفي رواية للحاكم وقال على شرط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل { استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني عبدي وهو لا يدري ، يقول وادهراه وادهراه ، وأنا الدهر } .

إلى غير ما ذكرنا من الأخبار في النهي عن سب الدهر . ومنهم من يذكر ذلك على ضرب عن المجاز من غير تبرم ولا انزعاج ، بل يبدي الحكمة ويسند الفعل لله تعالى ، كقول حسين المملوك رحمه الله تعالى :


كم من جهول في الغنى مكثر ومن عليم في عناء مقيم     قد حارت الأفكار في سر ذا
وطاشت الناس فقال الحكيم     لا يسأل الخلاق عن فعله
ذلك تقدير العزيز العليم

وأما من اعترض على الله فقد عدم التوفيق ، وخلع عن عنقه ربقة الإسلام والتصديق ، فهو مضل ضال زنديق . [ ص: 561 ] وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في صيد الخاطر : ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر . وقد كان هذا في الجاهلية ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال { لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر } ومعناه أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهاليكم وتنسبونه إلى الدهر ، والله تعالى هو الفاعل لذلك . فتعجبت كيف أعلم أهل الإسلام بهذه الحال وهم على ما كان أهل الجاهلية عليه ما يتغيرون ، حتى ربما اجتمع الفطناء الأدباء الظراف على زعمهم فلم يكن لهم شغل إلا ذم الدهر ، وربما جعلوا الله الدنيا ويقولون فعلت وصنعت ، حتى رأيت لأبي القاسم الحريري :

ولما تعامى الدهر وهو أبو الورى     عن الرشد في إيجابه ومقاصده
تعاميت حتى قيل إني أخو عمى     ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده

قال ابن الجوزي : وقد رأيت خلقا يعتقدون أنهم فقهاء وفهماء ولا يتحاشون من هذا ، وهؤلاء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان فذاك لا اختيار له ولا مراد ، ولا يعرف رشدا من ضلال ، ولا ينبغي أن يلام فإنه زمان مدبر لا مدبر ، فيتصرف فيه ولا يتصرف ، وما يظن بعاقل أنه يشير إلى أن المذموم المعرض عن الرشد المسيء الحكم هو الزمان ، فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة الإسلام ونسبوا هذه القبائح إلى الصانع ، فاعتقدوا فيه قصور الحكمة وفعل ما لا يصلح . كما اعتقده إبليس في تفضيل آدم .

وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا اعتقاد إسلام ولا فعل صلاة ولا صيام . بل هم شر من الكفار . ثم دعا عليهم رحمه الله ورضي عنه .

وقال في موضع آخر من الكتاب المذكور : تأملت على قوم يدعون العقول يعترضون على حكمة الخالق جل ثناؤه ، فيبقى أن هؤلاء قد أعطاهم الكمال ، ورضي لنفسه بالنقص . هذا الكفر المحض الذي يزيد في القبح على الجحد . فأول القوم إبليس فإنه رأى بعقله أن جوهر النار أشرف من جوهر الطين فرد حكمة الخالق . ومر على هذا خلق كثير من المعترضين مثل ابن الراوندي والمعري . قال وهذا المعري اللعين يقول كيف يعاب ابن الحجاج [ ص: 562 ] بالسحق والدهر أقبح فعلا منه ، أترى يعني به الزمان كلا ، فإن ممر الأوقات لا تفعل شيئا وإنما هو ، فكان يستعجل الموت ظنا منه أنه يستريح .

وكان يوصي بترك النكاح والنسل ، ولا يرى في الإيجاد حكمة إلا العناء والتعب ومصير الأبدان إلى البلى ، وهذا لو كان كما ظن كان الإيجاد عبثا والحق منزه عن العبث . قال تعالى { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا } فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثا أفنكون نحن ونحن مواطن معرفته ومحال تكليفه قد وجدنا عبثا ،

التالي السابق


الخدمات العلمية