الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قال: " والجواب أن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد فلا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو [ ص: 249 ] مباينا عنه بالجهة، وهذه المقدمة ممنوعة، وبيانه من وجوه:

الأول: أن جمهور الفلاسفة يثبتون موجودات غير محايثة لهذا العالم الجسماني، ولا مباينا عنه بالجهة، وذلك لأنهم يثبتون العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة [ ص: 250 ] ويثبتون الهيولى ويزعمون أن هذه الأشياء موجودات غير متحيزة [ ص: 251 ] ولا حالة في المتحيز، فلا يصدق عليها أنها محايثة لهذا العالم ولا مباينة عنه بالجهة، وما لم يبطلوا هذا المذهب بالدليل لا يصح القول بأن كل موجودين في الشاهد إما أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه.

الثاني: أن جمهور المعتزلة يثبتون إرادات وكراهات موجودة لا في محل، ويثبتون فناء لا في محل، وتلك الأشياء لا يصدق عليها أنها محايثة للعالم أو مباينة عن العالم بالجهة، فما لم يبطلوا ذلك لا تتم دعواهم.

الثالث: أنا نقيم الدليل على أن الإضافات أعراض موجودات في الأعيان، ثم نبين أنها تمتنع أن تكون محايثة للعالم أو مباينة عنه بالجهة، وذلك يبطل كلامهم، وإنما قلنا: إن [ ص: 252 ] الإضافات أعراض موجودات في الأعيان، وذلك لأن المعقول من كون الإنسان أبا لغيره مغاير لذاته المخصوصة، بدليل أنه يمكن أن يعقل ذاته مع الذهول عن كونه أبا وابنا والمعلوم غير ما هو غير معلوم.

وأيضا فإنه يمكن ثبوت ذاته منفكة عن الأبوة والبنوة مثل عيسى عليه السلام فإنه ما كان أبا لأحد ولا ابنا لأحد من الذكور، والثابت غير ما هو غير ثابت، فكونه أبا وابنا مغايرا لذاته المخصوصة، ثم هذا المغاير إما أن يكون وصفا سلبيا أو ثبوتيا والأول باطل، لأن عدم الأبوة هو الوصف السلبي والأبوة رافعة له، ورافع العدم الوجود. فثبت أن [ ص: 253 ] الأبوة وصف وجودي مغاير لذات الأب. إذا ثبت هذا فنقول: إنه مستحيل أن يقال: الأبوة محايثة لذات الأب، وإلا لزم أن يقال: إنه قائم بنصف الأب نصف الأبوة، وبثلثه ثلث الأبوة، ومعلوم أن ذلك باطل ومحال أن يقال: إنها مباينة عن ذات الأب مباينة بالجهة والحيز، وإلا لزم كون الأبوة جوهرا قائما بذاته مباينا عن ذات الأب بالجهة، وذلك أيضا محال. فثبت بهذا الدليل وجود موجود لا يمكن أن يقال: إنه محايث للعالم ولا أن يقال: مباين عنه بالجهة، وإذا ثبت هذا بطل قولهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية