الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الآمدي: "الحجة الرابعة: أنه لو قامت الحوادث بذاته لكان متغيرا ، والتغير على الله محال ، ولهذا قال الخليل عليه السلام: لا أحب الآفلين [سورة الأنعام : 76] ، أي المتغيرين" .

قال: "ولقائل أن يقول: إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته ، فقد اتحد اللازم والملزوم ، وصار حاصل المقدمة الشرطية: لو قامت الحوادث بذاته ، لقامت الحوادث بذاته وهو غير مفيد ، ويكون القول بأن: التغير على الله بهذا الاعتبار محال ، دعوى محل [ ص: 72 ] النزاع فلا يقبل ، وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله تعالى، فهو غير مسلم ، ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه" .

قلت : لفظ "التغير" في كلام الناس المعروف هو يتضمن استحالة الشيء، كالإنسان إذا مرض، يقال غيره المرض . ويقال في الشمس إذا اصفرت تغيرت. والأطعمة إذا استحالت يقال لها: تغيرت. قال تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين [سورة محمد : 15]. فتغير الطعم استحالته من الحلاوة إلى الحموضة، ونحو ذلك .

ومنه قول الفقهاء: إذا وقعت النجاسة في الماء الكثير لم ينجس ، إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وقولهم إذا نجس الماء بالتغير زال بزوال التغير. ولا يقولون: إن الماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه تغير، ولا يقال عند الإطلاق للفاكهة والطعام إذا حول من مكان إلى مكان: أنه تغير . ولا يقال للإنسان إذا مشى أو قام أو قعد: قد تغير، اللهم إلا مع قرينة ، ولا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت [ ص: 73 ] ذاهبة من المشرق إلى المغرب: إنها متغيرة ، بل يقولون إذا اصفر لون الشمس: إنها تغيرت، ويقال: وقت العصر ما لم يتغير لون الشمس [ويقولون: تغير الهواء ، إذا برد بعد السخونة ، ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا ، وإن سمي بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا]، ويقال : قد أمر أهل الذمة بلباس الغيار ، أي اللباس الذي يخالف [لونه] لون لباس المسلمين: وتقول العرب : تغايرت الأشياء، إذا اختلفت، والغيار: البدال .

قال الشاعر :


فلا تحسبني لكم كافرا . . . ولا تحسبني أريد الغيارا



ويقولون: نزل القوم يغيرون: أي يصلحون الرحال .

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بأبي قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة، فقال: غيروا الشيب ، وجنبوه السواد . أي غيروا لونه إلى لون آخر: أحمر أو أصفر . وتقول العرب: غيرت الشيء فتغير غيرا. [ ص: 74 ]

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره. أي قرب تغيره من الجدب إلى الخصب .

وغار الرجل على أهله يغار ، إذا حصل له غضب أحال صفته من حال إلى حال .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من رأى منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.

وقال: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه. [ ص: 75 ]

وتغيير المنكر تبديل صفته حتى يزول المنكر بحسب الإمكان ، وإن لم يكن إلا بتغير الإنسان في نفسه غضبا لله .

ولهذا لم يطلق على الصفة الملازمة للموصوف أنها مغايرة له ، لأنه لا يمكن أن يستحيل عنها ولا يزايل .

والغير والتغير من مادة واحدة، فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان، فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير، ولا تكون صفاته مغايرة له .

والناس إذا قيل لهم: التغير على الله ممتنع ، فهموا من ذلك الاستحالة والفساد ، مثل انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص ، أو تفرق الذات ، ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه .

وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته ، فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه، ويتكلم إذا شاء ، ونحو هذا لا يسمونه تغيرا .

ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة ، كما قال الإمام أحمد : يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم، حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون الله ، وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية