الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1843 ] القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [4] يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب .

                                                                                                                                                                                                                                      يسألونك ماذا أحل لهم أي: من المطاعم: قل أحل لكم الطيبات أي: ما ليس بخبيث منها. وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة. و (الطيب) في اللغة هو المستلذ. و (الحلال) المأذون فيه، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ. لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة: وما علمتم من الجوارح عطف على (الطيبات) بتقدير مضاف. أي: وصيد ما علمتموه. أو مبتدأ، على أن (ما) شرطية وجوابها (فكلوا). و (الجوارح): الكواسب من سباع البهائم والطير - كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين - لأنها تجرح لأهلها أي: تكسب لهم. الواحدة جارحة. تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. وفلان لا جارح له؛ أي: لا كاسب. ومنه قوله تعالى: ويعلم ما جرحتم بالنهار أي: كسبتم. وقيل: سميت (جوارح) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه. وقوله تعالى: مكلبين أي: معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت، وتنزجر إذا زجرت، وتجتنب عند الدعوة، ولا تنفر عند الإرادة، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن. إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم، فلا يحل صيدها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: (المكلب) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها [ ص: 1844 ] لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من (الكلب) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله الأسد» . (الحديث حسن، أخرجه الحاكم)، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مكلبين) على الحال من (علمتم). فإذا قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغني عنها ب (علمتم)؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه، مدربا فيه، موصوفا بالتكليب. وقوله تعالى: تعلمونهن حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة. وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه. وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من آخذ، عن غيره متقن، قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النحارير أنامله: مما علمكم الله أي: من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من إتباع الصيد بإرسال صاحبه. وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه. وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الناصر في "الانتصاف": وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم. لأن تعليمها، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه. خلافا لمنكري ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      فكلوا مما أمسكن عليكم أي: صدن لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه: واذكروا اسم الله عليه الضمير يرجع إلى (ما علمتم من الجوارح) أي: سموا عليه عند إرساله، كما بينه حديث أبي ثعلبة وعدي الآتي. وجوز رجوعه إلى (ما أمسكن) على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم زكاته: واتقوا الله أي: بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالا إليها: إن الله سريع الحساب أي: المجازاة على كل ما جل ودق.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1845 ] تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين. سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: «يا رسول الله! قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها» ؟ فنزلت: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ; قال سعيد: يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم; وقال مقاتل: ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي؟ فقال: ليس هو من الطيبات، رواه ابن أبي حاتم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس؟ فقال: ليس هو من الطيبات. وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثرا آخر، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فسكت. فأنزل الله: يسألونك الآية.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه، فليأكل مما لم يأكل» .

                                                                                                                                                                                                                                      وعند ابن جرير عن أبي رافع قال: «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنا لك يا رسول الله! قال: أجل. ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة. حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها. ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأنزل الله عز وجل: يسألونك » . [ ص: 1846 ] ورواه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح ولم يخرجاه.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن جرير أيضا عن عكرمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي. فجاء عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله» ؟ فنزلت الآية: رواه الحاكم أيضا عن عكرمة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزولها: أنه في قتل الكلاب - أفاده ابن كثير.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض المفسرين: لما نزلت الآية، أذن صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وأمر بقتل العقور وما يضر. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      أقول: روى الإمام أحمد ومسلم عن جابر قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. حتى أن امرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان» .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الشيخان عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية» .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها. فاقتلوا منها كل أسود بهيم» . رواه أبو داود والدارمي، وزاد [ ص: 1847 ] الترمذي والنسائي: «وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط. إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم» .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر هذه الأحاديث، أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر بقتلها كلها. ثم رخص في استبقائها. إلا الأسود فإنه مستحق القتل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقول إمام الحرمين: ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم - يحتاج إلى برهان.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عبد البر: في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك للزرع؛ لأنها زيادة حافظ. وكراهة اتخاذها لغير ذلك. إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا، فمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة، لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: ووجه الحديث عندي; أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث؟ فلم يعرفه. فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروع السائل. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الخطابي: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم... إلخ» . أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق، لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم. وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1848 ] وقال الطيبي: قوله: «أمة من الأمم» إشارة إلى قوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم أي: أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له. قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده أي: يسبح بلسان القال أو الحال. حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عما لا يجوز عليه، فبالنظر إلى هذا المعنى، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. ولكن إذا كان لدفع مضرة - كقتل الفواسق الخمس - أو جلب منفعة - كذبح الحيوانات المأكولة - جاز ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أن الجوارح التي يحل صيدها، ما قبل التعليم من ذي ناب كالكلب والفهد والنمر، أو ذي مخلب كالطيور المذكورة قبل. قال في "النهاية": حتى الهر إن تعلم، واحتجوا بعموم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى أحمد وأبو داود عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا. فإنه أمسكه عليك» .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1849 ] قال البيهقي: تفرد مجالد بذكر الباز فيه، وخالف الحفاظ.

                                                                                                                                                                                                                                      أقول: روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل» . وعن ابن عمر ومجاهد: «لا يحل إلا صيد الكلب فقط» . وروى ابن جرير بسنده، أن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير (والبزاة من الطير) فما أدركت فهو لك. وإلا فلا تطعمه. وقال ابن أبي حاتم: كره مجاهد صيد الطير كله، وقرأ قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين أي: فإن قوله تعالى: مكلبين يشير إلى قصر ذلك على الكلب. وقال الحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق: يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم. لأنه قد أمر بقتله.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: قدمنا أن انتصاب: مكلبين على الحال من: علمتم . قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (الجوارح) أي: وما علمتم من الجوارح في حال [ ص: 1850 ] كونهن مكلبات للصيد. وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها.

                                                                                                                                                                                                                                      فيستدل بذلك، والحالة هذه، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره، أنه يحل. كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء. ولهذا قال: تعلمونهن مما علمكم الله وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا استشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه. ولهذا قال تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه فمتى كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه - وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله - حل الصيد وإن قتله، بالإجماع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. كما ثبت في "الصحيحين" [ ص: 1851 ] عن عدي بن حاتم قال: قلت: «يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله؟ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد؟ فقال: إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض، فإنه وقيذ، فلا تأكله» .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1852 ] وفي لفظ لهما: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. فإن أمسك عليك فأدركته حيا. فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله وإن أخذ الكلب ذكاته» . وفي رواية لهما: «فإن أكل فلا تأكله. فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» . فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا. ولم يستفصلوا. كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا. أكل أو لم يأكل.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1853 ] روى ابن جرير عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا: كل وإن أكل ثلثيه. وعن سعد بن أبي وقاص: «وإن أكل ثلثيه» . وعنه: «وإن لم يبق إلا بضعة» . وعن ابن عمر: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. أكل أو لم يأكل. وحكاه عن علي وابن عباس وغير واحد من التابعين.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي ذلك مرفوعا أيضا. أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا، يقال له أبو ثعلبة، قال: «يا رسول الله! إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. [ ص: 1854 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك. فقال: ذكي وغير ذكي، وإن أكل منه؟ قال: نعم. وإن أكل منه. فقال: يا رسول الله! أفتني في قوسي! فقال: كل ما ردت عليك قوسك. قال: ذكي وغير ذكي؟ قال: وإن تغيب عنك ما لم يضل أو تجد فيه أثرا غير سهمك. قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: اغسلها وكل فيها» . هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك» .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم. لحديث عدي، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إن أمسكه، ثم انتظر صاحبه، فطال عليه، وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة. وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين، صحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه "النهاية": أن لو فصل مفصل هذا التفصيل. وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب. أفاده ابن كثير.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم (الأولى): حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، و (الثانية) الترجيح، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما. ومختلف في تضعيفها. وأيضا، فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم. وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم. فإذا [ ص: 1855 ] شككنا في السبب المبيح، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة. فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد: إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد، فلا تأكل. فإنما أمسك على نفسه. فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل، فكل. فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس. وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه بمعناه. ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة: (عليكم) في الآية. وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث الأعرابي على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا.

                                                                                                                                                                                                                                      فاختير له الحمل على الأولى. بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: إن شرب من دمه فلا تأكل؛ فإنه لم يعلم ما علمته. وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله، دل على أنه ليس يعلم التعليم المشروط.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: في الآية مشروعية التسمية. قال ابن كثير: قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه أي: عند إرساله له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: [ ص: 1856 ] «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك» . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في "الصحيحين" أيضا: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. وإذا رميت بسهمك» . ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله، في المشهور عنه، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث. وهذا القول المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال. كما قال السدي وغيره. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: «إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله. وإن نسيت فلا حرج» . انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض الزيدية: والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة. فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي. لحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» . ومن قائل بأنها مستحبة. ومن قائل بأنها شرط مطلقا. المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة. فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. ثم قال: لقائل أن يقول: يحتمل أن يرجع قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه إلى الأكل. أي: فسموا عند الأكل. فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية. انتهى. وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصه:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1857 ] وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل. كما ثبت في "الصحيحين"; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه، عمر بن أبي سلمة، فقال: «سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» . وفي "صحيح البخاري" عن عائشة; أنهم قالوا: «يا رسول الله! إن قوما يأتوننا، حديث عهد بكفر، بلحمان، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: سموا الله أنتم وكلوا أنتم» . وقال الترمذي: حسن صحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة. لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك. كذا في "الإكليل". وتقدم عن الزمخشري والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير، وأن البهائم لها علم. واستدل بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة، بالسنة: كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية