الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قال موسى لقومه جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم، وتفصيل كيفية نقضهم له، مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما بينهم، و( إذ ) نصب على أنه [ ص: 105 ] مفعول لفعل محذوف، خوطب به سيد المخاطبين - صلى الله تعالى عليه وسلم - بطريق تلوين الخطاب، وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات، أي: واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى - عليه السلام - ناصحا ومستميلا لهم بإضافتهم إليه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه، و( عليكم ) متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدرا، وإما بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما، أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر، واذكروا نعمته كائنة عليكم، وكذا ( إذ ) في قوله تعالى: إذ جعل فيكم أنبياء متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور، أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء، وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر، والمراد بهم: موسى ، وهارون ، ويوسف ، وسائر أولاد يعقوب، على القول بأنهم كانوا أنبياء، أو الأولون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، فقد قال ابن السائب ومقاتل: إنهم كانوا أنبياء.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الماوردي وغيره: المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل، والفعل الماضي مصروف عن حقيقته، وقيل: المراد بهم من تقدم ومن تأخر، ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وجعلكم ملوكا عطف على ( جعل فيكم ) وغير الأسلوب فيه؛ لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة، فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لأنها أمر إلهي، يخص الله تعالى به من شاء، فلذا لم يتجوز في إسنادها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لا مجاز في الإسناد، وإنما هو في لفظ الملوك، فإن القوم كانوا مملوكين في أيدي القبط، فأنقذهم الله تعالى، فسمي ذلك الإنقاذ ملكا، وقيل: لا مجاز أصلا، بل جعلوا كلهم ملوكا على الحقيقة، والملك من كان له بيت وخادم، كما جاء عن زيد بن أسلم، مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، عن الحسن : هل الملك إلا مركب وخادم ودار؟

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري، عن عبد الله بن عمرو، أنه سأله رجل فقال: «ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما، قال: فأنت من الملوك».

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال، وتحمل المشاق، وإليه ذهب أبو علي الجبائي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز، وما ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين من فلق البحر، وإغراق العدو، وتظليل الغمام، وانفجار الحجر، وإنزال المن والسلوى، وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة، والخطاب لقوم موسى - عليه السلام - كما هو الظاهر، و( أل ) في العالمين للعهد، والمراد عالمي زمانهم، أو للاستغراق، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه؛ فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل، وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل، لكن المتبادر من استعماله ذلك، ولذا أول بما أول.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن سعيد بن جبير ، وأبي مالك أن الخطاب [ ص: 106 ] هنا لهذه الأمة، وهو خلاف الظاهر جدا، ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد؛ لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل، مع عدم دافع له سوى ذلك، وقد علمت أنه من بعض الظن.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية