الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        البحث الحادي عشر : في الإجماع السكوتي

                        وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول ، وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ، ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار ، وفيه مذاهب :

                        الأول : أنه ليس بإجماع ولا حجة ، قاله داود الظاهري وابنه والمرتضى ، وعزاه القاضي إلى الشافعي ، واختاره ، وقال : إنه آخر أقوال الشافعي .

                        [ ص: 265 ] وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد ، وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه .

                        والقول الثاني : أنه إجماع وحجة ، وبه قال جماعة من الشافعية ، وجماعة من أهل الأصول ، وروي نحوه عن الشافعي .

                        قال الأستاذ أبو إسحاق : اختلف أصحابنا في تسميته إجماعا ، مع اتفاقهم على وجوب العلم به .

                        وقال أبو حامد الإسفرائيني : هو حجة مقطوع بها وفي تسميته إجماعا وجهان : أحدهما المنع ، وإنما هو حجة كالخبر ، والثاني يسمى إجماعا ، وهو قولنا . انتهى .

                        واستدل القائلون بهذا القول ، بأن سكوتهم ظاهر في الموافقة ، إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة ، فكان ذلك محصلا للظن بالاتفاق .

                        وأجيب : باحتمال أن يكون سكوت من سكت على الإنكار لتعارض الأدلة عنده ، أو لعدم حصول ما يفيده الاجتهاد في تلك الحادثة إثباتا ، أو نفيا ، أو للخوف على نفسه ، أو ذلك من الاحتمالات .

                        القول الثالث : أنه حجة ، وليس بإجماع ، قاله أبو هاشم وهو أحد الوجهين عند الشافعي كما سلف ، وبه قال الصيرفي ، واختاره الآمدي . قال الصفي الهندي : ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول ، يعني أنه إجماع لا حجة ، ويمكن القول به كالإجماع المروي بالأحاديث عند من لم يقل بحجيته .

                        القول الرابع : أنه إجماع بشرط انقراض العصر ; لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا ، وبه قال أبو علي الجبائي وأحمد في رواية عنه ، ونقله ابن فورك في كتاب عن أكثر أصحاب الشافعي ، ونقله الأستاذ أبو طاهر البغدادي عن الحذاق منهم ، واختاره ابن القطان والروياني . قال الرافعي : إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي ، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع إنه المذهب ، قال : فأما قبل [ ص: 266 ] الانقراض ففيه طريقان ، إحداهما : أنه ليس بحجة قطعا ، والثانية : على وجهين .

                        القول الخامس : أنه إجماع إن كان فتيا لا حكما ، وبه قال ابن أبي هريرة ، كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي ، والرافعي ، وابن السمعاني ، والآمدي ، وابن الحاجب .

                        ووجه هذا القول : أنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم .

                        وقيل : وجهه أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه ، فلا يكون السكوت دليل الرضا ، ونقل ابن السمعاني عن ابن أبي هريرة أنه احتج لقوله هذا بقوله : إنا نحضر مجلس بعض الحكام ، ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ، ولا ننكر ذلك عليهم ، فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك .

                        القول السادس : أنه إجماع إن كان صادرا عن حكم ، لا كان صادرا عن فتيا ، قاله أبو إسحاق المروزي ، وعلل ذلك بأن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشاورة ، وحكاه ابن القطان عن الصيرفي .

                        القول السابع : أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج ، كان إجماعا ، وإلا فهو حجة ، وفي كونه إجماعا وجهان ، حكاه الزركشي ولم ينسبه إلى قائل .

                        القول الثامن : إن كان الساكتون أقل كان إجماعا ، وإلا فلا ، قاله أبو بكر الرازي وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن الشافعي . قال الزركشي وهو غريب ، لا يعرفه أصحابه .

                        القول التاسع : إن كان في عصر الصحابة كان إجماعا ، وإلا فلا ، قال الماوردي في الحاوي والروياني في البحر إن كان عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولا ، أو حكم به فأمسك الباقون ، فهذا ضربان :

                        أحدهما : مما يفوت استدراكه كإراقة دم واستباحة فرج ، فيكون إجماعا ; لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه ، إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر ، وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة ; لأن الحق لا يخرج عن غيرهم ، وفي كونه إجماعا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا : أحدهما يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد ، والثاني لا يكون إجماعا سواء كان القول فتيا أو حكما على الصحيح .

                        القول العاشر : أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه ، فإنه يكون السكوت إجماعا ، وبه قال إمام الحرمين الجويني [ ص: 267 ] قال الغزالي في المنخول : المختار أنه لا يكون حجة إلا في صورتين :

                        أحدهما : سكوتهم ، وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع ، والدواعي تتوفر على الرد عليه .

                        الثاني : ما يسكتون عليه على استمرار العصر ، وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافا ، فأما إذا حضروا مجلسا ، فأفتى واحد وسكت آخرون ، فذلك اعتراض لكون المسألة مظنونة ، والأدب يقتضي أن لا يعترض على القضاة والمفتين .

                        القول الحادي عشر : أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا ، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول ، واختار هذا الغزالي في المستصفى وقال بعض المتأخرين : إنه أحق الأقوال ; لأن إفادة القرائن العلم بالرضا كإفادة النطق له ، فيصير كالإجماع القطعي .

                        القول الثاني عشر : أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب ، لا بعدها ، فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه ، مع مخالفته لمذاهب غيره ، وهذا التفصيل لا بد منه على جميع المذاهب السابقة . هذا في الإجماع السكوتي إذا كان سكوتا عن قول .

                        مطلب

                        الاتفاق على عمل من دون صدور قول

                        وأما لو اتفق أهل الحل والعقد على عمل ، ولم يصدر منهم قول ، واختلفوا في ذلك ، فقيل : إنه كفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ; لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثبوبتها للشارع ، فكانت أفعالهم كأفعاله ، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ، وقال الغزالي في المنخول : إنه المختار ، وقيل بالمنع ، ونقله الجويني ، عن القاضي ، إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددا على فعل واحد من غير أرب ، فالتواطؤ عليه غير ممكن ، وقيل : إنه ممكن ، ولكنه محمول على الإباحة ، حتى يقوم دليل على الندب ، أو الوجوب ، وبه قال الجويني .

                        [ ص: 268 ] قال القرافي : وهذا تفصيل حسن ، وقيل : إن كل فعل خرج مخرج البيان ، أو مخرج الحكم لا ينعقد به الإجماع ، وبه قال ابن السمعاني .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية