الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قال موسى - عليه السلام - لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة، وتستنزل النصرة، فليس القصد إلى الإخبار، وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردا لما أمر الله تعالى به، ولا اعتذارا عن عدم الدخول رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي هارون - عليه السلام - وهو عطف على ( نفسي ) أي: لا يجيبني إلى طاعتك، ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نفسي وأخي، ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما - وإن كانا يوافقانه إذا دعا - لما رأى من تلون القوم، وتقلب آرائهم، فكأنه يثق بهما، ولم يعتمد عليهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: ليس القصد إلى القصر، بل إلى بيان قلة من يوافقه، تشبيها لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد بأخي من يؤاخيني في الدين، فيدخلان فيه، ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين أو بجنس الأخ، وفيه بعد.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز في ( أخي ) وجوه أخر من الإعراب:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول أنه منصوب بالعطف على اسم ( إن ).

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني أنه مرفوع بالعطف على فاعل ( أملك ) للفصل.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث أنه مبتدأ خبره محذوف.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع أنه معطوف على محل اسم ( إن ) البعيد؛ لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول، بل يقدر للمعطوف مفعول آخر، أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم ( إن ) أو فاعل ( أملك ) أن موسى وهارون - عليهما السلام – لا يملكان إلا نفس موسى - عليه السلام – فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير: ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك ومفهومه الكلي لا الشخصي المعين بمتعلقاته المخصوصة، فإن ذلك إلى القرائن.

                                                                                                                                                                                                                                      فافرق بيننا يريد نفسه وأخاه - عليهما الصلاة السلام - والفاء لترتيب الفرق، [ ص: 109 ] والدعاء به على ما قبله، وقرئ ( فافرق ) بكسر الراء.

                                                                                                                                                                                                                                      وبين القوم الفاسقين أي الخارجين عن طاعتك، بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه، كما هو المروي عن ابن عباس ، والضحاك - رضي الله تعالى عنهم - وقال الجبائي : سأل - عليه السلام - ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى: قال فإنها فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء، فكان ذلك إثر الدعاء، ونوع من المدعو به.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير ، عن السدي قال: إن موسى - عليه السلام - غضب حين قال له القوم ما قالوا، فدعا، وكان ذلك عجلة منه - عليه السلام – عجلها، فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه فلا تأس على القوم الفاسقين والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة، أي فإنها لدعائك محرمة عليهم لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرئ القيس يصف فرسه:


                                                                                                                                                                                                                                      جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام



                                                                                                                                                                                                                                      يريد: إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أبو علي الجبائي - وإليه يشير كلام البلخي - أن يكون تحريم تعبد، والأول أظهر.

                                                                                                                                                                                                                                      أربعين سنة متعلق بـ( محرمة ) فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى: ( كتب الله لكم ) والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة، لكن لا بمعنى إن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسبما روي أن موسى - عليه السلام - سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها، وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض - عليه السلام - وروي ذلك عن الحسن ومجاهد ، وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: ( لن ندخلها أبدا ) وإنما دخلها مع موسى - عليه السلام - النواشئ من ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم، وإنما جعل تحريما عليهم لما بينهما من العلاقة التامة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: يتيهون في الأرض استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل: حال من ضمير ( عليهم ) والتيه: الحيرة، ويقال: تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون متحيرين، وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الظرف متعلق بـ( يتيهون ) وروي ذلك عن قتادة ، فيكون التيه مؤقتا، والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه، وكان مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخا في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل، وقيل: اثني عشر فرسخا في عرض ستة فراسخ، وقيل: ستة في عرض تسعة، وقيل: كان طولها ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ، وهي ما بين مصر والشام ، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل، وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون، ويمسون حيث يصبحون، كما قاله الحسن ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا: إنا ها هنا قاعدون عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة؛ لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما، فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه، وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات، إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها، أو ألقي شبه بعضها على بعض.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو علي الجبائي : إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم، ويغني الله تعالى عن قبوله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 110 ] وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس، وينزل عليهم المن والسلوى، وجعل معهم حجر موسى - عليه السلام - يتفجر منه الماء دفعا لعطشهم، قيل: ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم، ولا يطول شعرهم، ولا تبلى ثيابهم، كما روي عن الربيع بن أنس ، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روي عن طاوس.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله، ولا يبلى، إلى غير ذلك مما ذكروه.

                                                                                                                                                                                                                                      والعادة تبعد كثيرا منه، فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه؟ فقال: إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم، فذكرت له حديث الظفر فقال: لم نظفر به، وأنكره، فقلت له: هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال: لا أرضى بالكذب ثوبا.

                                                                                                                                                                                                                                      واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى، وتعذيبهم إنما كان للتأديب، كما يضرب الرجل ولده مع محبته له، ولا يقطع عنه معروفة، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم، وأكثر المفسرين على أن موسى وهارون - عليهما السلام - كانا معهم في التيه، لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم، وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم - عليه السلام - ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أن هارون مات في التيه، واتهم به موسى - عليهما السلام - فقالوا: قتله لحبنا له، فأحياه الله تعالى بتضرعه فبرأه مما يقولون، وعاد إلى مضجعه، ومات موسى - عليه السلام - بعده بسنة، وقيل: بستة أشهر ونصف، وقيل: بثمانية أعوام، ودخل يوشع أريحاء بعده بثلاثة أشهر، وقال قتادة : بشهرين، وكان قد نبئ قبل بمن بقي من بني إسرائيل، ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم، قيل: ولا يساعده النظم الكريم؛ فإنه بعدما قبل دعوته - عليه السلام - على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا، ويقدر وفاة النبيين - عليهما السلام - في محل العقوبة ظاهرا، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما - عليهما السلام - بالتيه كثيرة، لا سيما الأخبار بموت هارون - عليه السلام – ولا أرى للاستبعاد محلا، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: إنهما - عليهما السلام - لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه، وأن الدعاء - وقد أجيب - كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان بالدنيا، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح؛ فإن كثيرا من الآيات كالنص في وجود موسى - عليه السلام - معهم فيه كما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تأس أي فلا تحزن لموتهم، أو لما أصابهم فيه، من الأسى وهو الحزن.

                                                                                                                                                                                                                                      على القوم الفاسقين الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم، فالخطاب لموسى - عليه السلام - كما هو الظاهر، وإليه ذهب أجلة المفسرين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : إنه للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - والمراد بالقوم الفاسقين معاصروه - عليه الصلاة السلام - من بني إسرائيل، كأنه قيل: هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك؛ فإنهم ورثوا ذلك عنهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية