الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 238 ] ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب

لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كل واحد منهم مملكة على قدر مرتبته ، ثم إنه أرسل إلى ملك الترك ، واسمه خرزاسف ، وهو أخو أفراسياب ، وصالحه ، واستقر الصلح على أن يكون لبشتاسب دابة واقفة على باب ملك الترك لا تزال على عادتها على أبواب الملوك ، فلما جاء زرادشت إلى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك ، وقال : أنا أعين لك طالعا تسير فيه إلى الحرب فتظفر ، وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم .

وكان زرادشت عالما بالنجوم جيد المعرفة بها ، فأجابه بشتاسب إلى ذلك ، فأرسل إلى الدابة التي بباب ملك الترك وإلى الموكل بها فصرفهما ، فغضب ملك الترك وأرسل إليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته .

فكتب إليه بشتاسب كتابا غليظا يؤذنه فيه بالحرب ، وسار كل واحد منهما إلى صاحبه والتقيا ، واقتتلا قتالا شديدا ، فكانت الهزيمة على الترك ، وقتلوا قتلا ذريعا . ومروا منهزمين ، وعاد بشتاسب إلى بلخ ، وعظم أمر زرادشت عند الفرس ، وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله .

وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب ، فلما انجلت [ ص: 239 ] الحرب سعى الناس بين بشتاسب وابنه إسفنديار ، وقالوا : يريد الملك لنفسه ، فندبه لحرب بعد حرب ، ثم أخذه وحبسه مقيدا .

ثم إن بشتاسب سار إلى ناحية كرمان ، وسجستان ، وسار إلى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه ، والتنسك هناك ، وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخا قد أبطله الكبر وترك بها خزائنه ، وأولاده ، ونساءه ، فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف ، فلما تحققها جمع عساكره وحشد وسار إلى بلخ ، وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته ، ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة ، وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران ، وأرسل السرايا إلى البلاد ، فقتلوا وسبوا وأخربوا ، وسبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خمانى ، وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان ، وسار متبعا لبشتاسب ، وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصن بتلك الجبال مما يلي فارس ، وضاق ذرعا بما نزل به .

فلما اشتد عليه الأمر أرسل إلى ابنه إسفنديار مع عالمهم جاماسب ، فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده ، فلما سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولا بالتجهز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم ، والتقوا ، واقتتلوا ، والتحمت الحرب ، وحمي الوطيس ، وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثر فيه ووهنه وتابع الحملات ، وفشا في الترك أن إسفنديار هو المتولي لحربهم ، فانهزموا لا يلوون على شيء ، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان .

فلما دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ، ووصاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ، ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنفذ السبايا ، والغنائم التي أخذت من بلادهم ، فسار إسفنديار ، ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلها عنوة ، وقتل الملك وإخوته ، ومقاتلته ، واستباح أمواله ، وسبى نساءه ، واستنقذ أختيه ودوخ البلاد ، وانتهى إلى آخر حدود بلاد الترك وإلى التبت ، وأقطع بلاد الترك ، وجعل كل ناحية إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجا يحملونه كل سنة إلى أبيه بشتاسب ، [ ص: 240 ] ثم عاد إلى بلخ .

فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك ، وأسر ذلك في نفسه ، وأمره بالتجهز والمسير إلى قتال رستم الشديد بسجستان ، وقال له : هذا رستم متوسط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس أعتقه فأقطعه إياها ، وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاووس ، وكان غرض بشتاسب أن يقتله رستم أو يقتل هو رستم ، فإنه كان أيضا شديد الكراهة لرستم ، فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه ، فخرج إليه رستم وقاتله فقتل إسفنديار ؛ قتله رستم .

ومات بشتاسب ، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة ، وقيل مائة وعشرين سنة ، وقيل مائة وخمسين سنة .

وقيل : إنه جاءه رجل من بني إسرائيل زعم أنه نبي أرسل إليه واجتمع به ببلخ ، فكان يتكلم بالعبري ، وزرادشت نبي المجوس يعبر عنه ، وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضا عن الإسرائيلي ، وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت .

التالي السابق


الخدمات العلمية