الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : آيتان يبشر بهما الكافر عند موته ولو ترى إذ الظالمون إلى قوله تستكبرون . [ ص: 133 ] وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف ، عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قاعدا وتلا هذه الآية : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ثم قال : والذي نفس محمد بيده ما من نفس تفارق [156و] الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار ، ثم قال : إذا كان عند ذلك صف سماطان من الملائكة نظموا ما بين الخافقين ، كأن وجوههم الشمس، فينظر إليهم ما يرى غيرهم ، وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم مع كل ملك منهم أكفان وحنوط ، فإذا كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى رضوان الله وجنته، فقد أعد الله لك من الكرامة ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، فما يزالون يبشرونه ويحفون به ، فلهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها ، ويسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل ، ويموت الأول فالأول ، ويبرد كل عضو الأول فالأول ، ويهون عليه وإن كنتم ترونه شديدا ، حتى تبلغ ذقنه ، فلهو أشد كراهة للخروج حينئذ من الولد حين يخرج من الرحم ، فيبتدرها كل ملك منهم أيهم يقبضها ، فيتولى قبضها ملك الموت ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون [السجدة : 11] قال : فيتلقاها بأكفان بيض ، ثم يحتضنها إليه ، فهو أشد لها لزوما من المرأة لولدها ، ثم يفوح لها فيهم ريح أطيب من المسك ، يتباشرون بها ويقولون : مرحبا بالريح الطيبة والروح [ ص: 134 ] الطيب ، اللهم صل عليه روحا ، وصل عليه جسدا خرجت منه ، فيصعدون بها ، ولله خلق في الهواء لا يعلم عدتهم إلا هو ، فيفوح لها فيهم ريح أطيب من المسك ، فيصلون عليها ويتباشرون بها ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر به ، حتى توقف بين يدي الملك الجبار ، فيقول الجبار عز وجل : مرحبا بالنفس الطيبة وبجسد خرجت منه . وإذا قال الرب عز وجل للشيء : مرحبا ، رحب له كل شيء وذهب عنه كل ضيق ، ثم يقول : اذهبوا بهذه النفس الطيبة فأدخلوها الجنة ، وأروها مقعدها ، واعرضوا عليها ما أعد لها من النعيم والكرامة ، ثم اهبطوا بها إلى الأرض ، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى ، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهة للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد ، وتقول : أين تذهبون بي ؟ إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه ! فيقولون : إنا مأمورون بهذا فلا بد لك منه ، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه ، فيدخلون ذلك الروح بين الجسد وأكفانه ، فما خلق الله كلمة تكلمها حميم ولا غير حميم إلا وهو يسمعها ، إلا أنه لا يؤذن له في المراجعة ، فلو سمع أشد الناس له حبا ومن أعزهم كان عليه يقول : على رسلكم ما يعجلكم . وأذن له في الكلام للعنه ، وإنه ليسمع خفق نعالهم ونفض أيديهم إذا ولوا عنه ، ثم يأتيه عند ذلك ملكان فظان غليظان ، يسميان منكرا ونكيرا ، ومعهما عصا من حديد لو اجتمع عليها الجن والإنس ما [ ص: 135 ] أقلوها وهي عليهما يسير ، فيقولان له : اقعد بإذن الله . فإذا هو مستو قاعدا ، فينظر عند ذلك إلى خلق كريه فظيع ينسيه ما كان رأى عند موته ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : الله ، فيقولان : فما دينك ؟ فيقول : الإسلام . ثم ينتهرانه عند ذلك انتهارة شديدة فيقولان : فمن نبيك؟ فيقول : محمد صلى الله عليه وسلم ، ويعرق عند ذلك عرقا يبتل ما تحته من التراب ، ويصير ذلك العرق أطيب من ريح المسك ، وينادى عند ذلك من السماء نداء خفيا : صدق عبدي ، فلينفعه صدقه . ثم يفسح له في قبره مد بصره ، وينبذ له فيه الريحان، ويستر بالحرير ، فإن كان معه من القرآن شيء كفاه نوره ، وإن لم يكن معه جعل له نور مثل الشمس في قبره ، ويفتح له أبواب وكوى إلى الجنة ، فينظر إلى مقعده منها مما كان عاين حين صعد به ثم يقال له : نم قرير العين ، فما نومه ذلك إلى يوم يقوم إلا كنومة ينامها أحدكم شهية لم يرو منها ، يقوم وهو يمسح عينيه ، فكذلك نومه فيه إلى يوم القيامة ، وإن كان غير ذلك إذا نزل به ملك الموت صف له سماطان من الملائكة نظموا ما بين الخافقين ، فيخطف بصره إليهم ما يرى غيرهم ، وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم ، ويشدد عليه ، وإن كنتم ترون أنه يهون عليه ، فيلعنونه ويقولون : اخرجي أيتها النفس الخبيثة ، فقد أعد الله لك من النكال والنقمة والعذاب كذا وكذا ، ساء ما قدمت لنفسك، ولا يزالون يسلونها في تعب وغلظ ، وغضب وشدة ، من كل ظفر وعضو ، ويموت الأول [ ص: 136 ] فالأول ، وتنشط نفسه كما يصنع السفود ذو الشعب بالصوف حتى تقع الروح في ذقنه، فلهي أشد كراهية للخروج من الولد حين يخرج من الرحم، مع ما يبشرونه بأنواع النكال والعذاب حتى تبلغ ذقنه ، فليس منهم ملك إلا وهو يتحاماه كراهية له ، فيتولى قبضها ملك الموت الذي وكل بها فيتلقاها ، أحسبه قال : بقطعة من بجاد أنتن ما خلق الله وأخشنه ، فتلقى فيها ، ويفوح لها ريح أنتن ما خلق الله، ويسد ملك الموت منخريه، ويسدون آنافهم ويقولون : اللهم العنها من روح ، والعنه جسدا خرجت منه ، فإذا صعد بها غلقت أبواب السماء دونها ، فيرسلها ملك الموت في الهواء حتى إذا دنت من الأرض انحدر مسرعا في أثرها فيقبضها بحديدة معه ، يفعل بها ذلك ثلاث مرات ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [الحج : 31] والسحيق البعيد ، ثم ينتهى بها فتوقف بين يدي الملك الجبار فيقول : لا مرحبا بالنفس الخبيثة ولا بجسد خرجت منه ثم يقول : انطلقوا بها إلى جهنم فأروها مقعدها منها ، واعرضوا عليها ما أعددت لها من العذاب والنقمة والنكال ، ثم يقول الرب : اهبطوا بها إلى الأرض فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ، فيهبطون بها على قدر فراغهم منها ، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه ، فما خلق الله حميما ولا غير حميم من كلمة يتكلم بها إلا وهو يسمعها ، إلا أنه لا يؤذن له في [ ص: 137 ] المراجعة، فلو سمع أحب الناس إليه وأعزهم عليه يقول : اخرجوا به وعجلوا ، وأذن له في المراجعه للعنه ، وود أنه ترك كما هو لا يبلغ به حفرته إلى يوم القيامة ، فإذا دخل قبره جاءه ملكان أسودان أزرقان فظان غليظان ، ومعهما مرزبة من حديد وسلاسل وأغلال ومقامع الحديد ، فيقولان له : اقعد بإذن الله ، فإذا هو مستو قاعد سقطت عنه أكفانه ، ويرى عند ذلك خلقا فظيعا ينسى به ما رأى قبل ذلك، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : أنت ، فيفزعان عند ذلك فزعة ويقبضان ويضربانه ضربة بمطرقة الحديد ، فلا يبقى منه عضو إلا وقع على حدة ، فيصيح عند ذلك صيحة، فما خلق الله من شيء ملك أو غيره إلا يسمعها إلا الجن والإنس، فيلعنونه عند ذلك لعنة واحدة، وهو قوله أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة : 159] والذي نفس محمد بيده لو اجتمع على مطرقتهما الجن والإنس ما أقلوها وهي عليهما يسير ، ثم يقولان : عد بإذن الله ، فإذا هو مستو قاعدا ، فيقولان : من ربك؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان : فمن نبيك ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون محمد ، فيقولان : فما تقول أنت ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان : لا دريت ، ويعرق عند ذلك عرقا يبتل ما تحته من التراب، فلهو أنتن من الجيفة فيكم ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، فيقولان له : نم نومة المسهر ، فلا يزال حيات وعقارب أمثال أنياب البخت من النار ينهشنه ، ثم يفتح له بابه فيرى مقعده من النار ، وتهب عليه أرواحها وسمومها، وتلفح وجهه النار غدوا وعشيا إلى يوم القيامة . [ ص: 138 ] وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس في قوله : غمرات الموت قال : سكرات الموت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس والملائكة باسطو أيديهم قال : هذا عند الموت ، والبسط الضرب ، يضربون وجوههم وأدبارهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس : والملائكة باسطو أيديهم قال : ملك الموت عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك في قوله : والملائكة باسطو أيديهم قال : بالعذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن محمد بن قيس قال : إن لملك الموت أعوانا من الملائكة ثم تلا هذه الآية : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن وهب قال : إن الملائكة الذين يقرنون بالناس هم الذين يتوفونهم ويكتبون لهم آجالهم ، فإذا كان يوم كذا وكذا توفته ، ثم نزع : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم [ ص: 139 ] فقيل لوهب : أليس قد قال الله : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [السجدة : 11] قال : نعم إن الملائكة إذا توفوا نفسا دفعوها إلى ملك الموت وهو كالعاقب - يعني العشار - الذي يؤدي إليه من تحته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطستي ، وابن الأنباري في الوقف والابتداء ، عن ابن عباس ، أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله : عذاب الهون قال : الهوان الدائم الشديد ، قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت الشاعر وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                                      إنا وجدنا بلاد الله واسعة تنجي من الذل والمخزاة والهون



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : عذاب الهون قال : الهوان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : عذاب الهون قال : الذي يهينهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية