الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله سبحانه: أفحكم الجاهلية يبغون إنكار وتعجيب من حالهم، وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية؟! وقيل: محل الهمزة بعد الفاء وقدمت لأن لها الصدارة، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب؛ لأن التولي عن حكم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 156 ] والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية، التي هي متابعة الهوى، الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة الجاهلية، وحكمهم: ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على حذف مضاف، أي أهل الجاهلية، وحكمهم ما ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «القتلى بواء» فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك، فنزلت.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر ( تبغون ) بالتاء، وهي إما على الالتفات لتشديد التوبيخ، وإما بتقدير القول، أي: ( قل لهم أفحكم ) إلخ، وقرأ ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم: ( أفحكم ) بالرفع على أنه مبتدأ، و( يبغون ) خبره، والعائد محذوف، وقيل: الخبر محذوف، والمذكور صفته، أي: حكم يبغون، واستضعف حذف العائد من الخبر، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حيان : وحسن الحذف في الآية شبه ( يبغون ) برأس الفاصلة فصار كالمشاركة، وزعم أن القراءة المذكورة خطأ خطأ كما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ قتادة : ( أفحكم ) بفتح الفاء والحاء والكاف، أي: أفحاكما كحكام الجاهلية ( يبغون ) وكانت الجاهلية تسمى من قبل - كما أخرج ابن أبي حاتم عن عروة – عالمية، حتى جاءت امرأة فقالت: يا رسول الله، كان في الجاهلية كذا وكذا، فأنزل الله تعالى ذكر الجاهلية، وحكم عليهم بهذا العنوان.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أحسن من الله حكما إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى، أو مساو له، كما يدل عليه الاستعمال، وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها لقوم يوقنون أي عند قوم، فاللام بمعنى عند، وإليه ذهب الجبائي ، وضعفه في الدر المصون، وصحح أنها للبيان، متعلقه بمحذوف، كما في ( هيت لك ) و( سقيا لك ) أي تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام الإنكاري لقوم يتدبرون الأمور، ويتحققون الأشياء بأنظارهم، وأما غيرهم فلا يعلمون أنه لا أحسن حكما من الله تعالى، ولعل من فسر بـ( عند ) أراد بيان محصل المعنى، وقيل: إن اللام على أصلها، وأنها صلة، أي حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعدلها، وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الإنكار السابق.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية