الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الخامس والأربعون : أن الأصل الذي قادهم إلى التعطيل ، واعتقاد المعارضة بين الوحي والعقل أصل واحد ، وهو منشأ ضلال بني آدم ، وهو الفرار من تعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه الدالة على صفاته ، وقيام الأمور المتجددة به ، وهذا لا محذور فيه ، بل هو الحق لا يثبت كونه سبحانه ربا وإلها وخالقا إلا به ، ونفيه جحد للصانع بالكلىة ، وهذا القدر اللازم لجميع طوائف أهل الأرض على اختلاف مللهم وعلومهم ، حتى لمن أنكر الصانع بالكلية وأنكره رأسا ، فإنه يضطر إلى الإقرار بذلك ، وإن قام عنده ألف شبهة أو أكثر على خلافه ، وأما من أقر بالصانع فهو مضطر إلى أن يقر بكونه حيا عالما قادرا مريدا حكيما فعالا ، ومع إقراره بذلك فقد اضطر إلى القول بتعدد صفات الواحد ، وتكثر أسمائه وأفعاله ، فلو تكثرت لم يلزم من تكثرها وتعددها محذور بوجه من الوجوه .

وإن قال : أنا أنفيها بالجملة ولا أثبت تعددها بوجه قيل له : فهو هذه الموجودات أو غيرها ؟ فإن قال : غيرها قيل : هو خالقها أم لا ؟ فإن قال : هو خالقها قيل له : قبل هو قادر عليها عالم بها مريد لها أم لا ؟ فإن قال : نعم هو كذلك ، اضطر إلى تعدد صفاته وتكثرها ، وإن نفى ذلك كان جاحدا للصانع بالكلية ، ويستدل عليه بما يستدل على الزنادقة الدهرية ، ويقال لهم ما قالت الرسل لأممهم : ( أفي الله شك ) وهل يستدل عليه بدليل هو أظهر للعقول من إقرارها به وبربوبيته .


وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل



فإن قال : أنا أثبته موجودا واجب الوجود لا صفة له قيل له : فكل موجود على قولك أكمل منه ، وضلال اليهود والنصارى وعباد الأصنام أعرف به منك ، وأقرب إلى الحق والصواب منك ، وأما فرارك من قيام الأمور المتجدة به ففررت من أمر لا يثبت كونه إلها وربا وخالقا إلا به ، ولا يتقرر كونه صانعا لهذا العالم مع نفيه أبدا ; وهو لازم لجميع طوائف أهل الأرض ، حتى الفلاسفة الذين هم أبعد الخلق من إثبات الصفات ، ولهذا قال بعض عقلاء الفلاسفة : إنه لا يتقرر كونه رب العالمين إلا بإثبات ذلك ، قال : والإجلال من هذا الإجلال واجب ، والتنزيه من هذا التنزيه متعين ، قال بعض العلماء : وهذه المسألة يقوم عليها قريب من ألف دليل عقلي وسمعي والكتب [ ص: 200 ] الإلهية والنصوص النبوية ناطقة بذلك ، وإنكار لما علم بالضرورة من دين الرسل أنهم جاءوا به .

ونحن نقول : إن كل سورة من القرآن تتضمن إثبات هذه المسألة ، وفيها أنواع من الأدلة عليها ، فأدلتها تزيد على عشرة آلاف دليل ، فأول سورة في القرآن تدل عليها من وجوه كثيرة ، وهي سورة أم الكتاب ، فإن قوله : ( الحمد لله ) يدل عليها ، فإنه سبحانه يحمد على أفعاله كما حمد نفسه في كتابه ، وحمده عليها رسله وملائكته والمؤمنون من عباده ، فمن لا فعل له البتة كيف يحمد على ذلك ؟ فالأفعال هي المقتضية للحمد ، ولهذا تجده مقرونا بها كقوله : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) ، ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) ، ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) .

الثاني : قوله : ( رب العالمين ) وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه وتدبيره له وإنفاذ أمر كل وقت فيه ، وكونه معه كل ساعة في شأن : يخلق ويرزق ، ويحيي ويميت ، ويخفض ويرفع ، ويعطي ويمنع ، ويعز ويذل ، ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته ، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه .

الثالث : ( الرحمن الرحيم ) هو الذي يرحم بقدرته ومشيئته من لم يكن له راحما قبل ذلك .

الرابع : قوله : ( مالك يوم الدين ) والملك هو المتصرف فيما هو ملك عليه ومالك له ، ومن لا تصرف له ولا يقوم به فعل البتة لا يعقل له ثبوت ملك .

الخامس : قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) فهذا سؤال الفعل يفعله لهم لم يكن موجودا قبل ذلك ، وهي الهداية التي هي فعله .

السادس : قوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) وفعله القائم به وهو الإنعام ، فلو لم يقم به فعل الإنعام لم يكن للنعمة وجود البتة .

السابع : قوله : ( غير المغضوب عليهم ) وهم الذين غضب الله عليهم بعدما أوجدهم وقام بهم سبب الغضب ، إذ الغضب على المعدوم محال ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن العبد إذا قال : ( الحمد لله رب العالمين ) يقول الله تعالى : حمدني [ ص: 201 ] عبدي ، وإذا قال ( الرحمن الرحيم ) قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال الله تعالى : مجدني عبدي ، وإذا قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل " ، فهذه أدلة من الفاتحة وحدها .

فتأمل أدلة الكتاب العزيز على هذا الأصل تجدها فوق عد العادين ، حتى إنك تجد في الآية الواحدة على اختصار لفظها عدة أدلة كقوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ، ففي هذه الآية عدة أدلة : أحدها : قوله : ( إنما أمره ) وهذا أمر التكوين الذي لا يتأخر عنه أمر المكون بل يعقبه الثاني : ( إذا أراد شيئا ) ( وإذا ) تخلص الفعل للاستقبال الثالث : ( أن يقول له كن فيكون ) ، ( وأن ) تخلص المضارع للاستقبال الرابع : ( أن يقول ) فعل مضارع إما للحال عاما للاستقبال ، الخامس : قوله : ( كن ) وهما حرفان يسبق أحدهما الآخر يعقبه الثاني ، السادس : قوله : ( فيكون ) ، والفاء للتعقيب يدل على أنه يكون عقب قوله : ( كن ) سواء لا يتأخر عنه .

وقوله تعالى : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) فهو سبحانه إنما كلمه ذلك الوقت ، وقوله تعالى : ( وناديناه ) ، ( ويوم يناديهم فيقول ) ، وقوله : ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) ، فالنداء إنما حصل ذلك الوقت ، وقوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) ، ( وجاء ربك ) ، ( ثم استوى على العرش ) ، ( وإذا أردنا أن نهلك قرية ) ، ( فعال لما يريد ) ، ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، ( يريد الله أن يخفف عنكم ) ، ( والله يريد أن يتوب عليكم ) ، ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) [ ص: 202 ] ، ( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) ، ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) ، ( كل يوم هو في شأن ) وهذا عند النفاة لا حقيقة له ، بل الشئون للمفعولات ، وأما هو فله شأن واحد قديم ، فهذه الأدلة السمعية وأضعاف أضعافها مما يشهد به صريح العقل ، فإنكار ذلك وإنكار تكثر الصفات وتعدد الأسماء هو أفسد للعقل والنقل وأفتح باب للمعارضة .

الوجه السادس والأربعون : أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم : إن من أئمتكم من يقول : إنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه عن النقائص ، ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلا ، صرح به الرازي ; وتلقاه عن الجوني وأمثاله ، قالوا وإنما نسيا عنه النقائص بالإجماع ; وقد قدح الرازي وغيره من النفاة في دلالة الإجماع ، وبينوا أنها ظنية لا قطعية ، فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص بل غاية ما عندهم في ذلك الظن .

فيا أولي الألباب ، كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات الله ونعوت جلاله وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ، وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكلمه لموسى ، حتى يدعى أن الأدلة السمعية على ذلك قد عارضها صريح العقل ؟ وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليل عقلي ولكن علمناه بالإجماع ، وقلتم : إن دلالته ظنية ، ويكفيك في فساد عقل معارض الوحي أنه لم يقم عنده دليل عقلي على تنزيه ربه عن العيوب والنقائص .

الوجه السابع والأربعون : إن الله تعالى جعل بعض مخلوقاته عاليا على بعض ولم يلزم من ذلك مماثلة العالي ومشابهته له ، فهذا الماء فوق الأرض ، والهواء فوق الماء ، والنار فوق الهواء ، والأفلاك فوق ذلك ، وليس عاليها مماثلا لسافلها ، والتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت الذي بين المخلوقات ، فكيف يلزم من علوه تشبيهه بخلقه .

فإن قلتم : وإن لم يلزم التشبيه لكن يلزم التجسيم قيل : انفصلوا أولا عن قول المعطلة للصفات : لو كان له سمع أو بصر أو حياة أو علم أو قدرة أو كلام لزم التجسيم ، فإذا انفصلتم منهم ، فإن أبيتم إلا الجواب قيل لكم ، ما تعنون بالتجسيم ؟ [ ص: 203 ] أتعنون به العلو على العالم والاستواء على العرش ، وهذا حاصل قولكم ؟ وحينئذ فما زدتم على إبطال ذلك بمجرد الدعوى التي اتحد فيها اللازم والملزوم بتقرير العبارة ، وكأنكم قلتم : لو كان فوق العالم مستويا على عرشه لكان فوق العالم ، ولكنكم لبستم وأوهمتم .

وإن عنيتم بالجسم المركب من الجواهر الفردة ، فجمهور العقلاء ينازعونكم في إثبات الجواهر الفردة فضلا عن تركيب الأجسام من ذلك ، فأنتم أبطلتم هذا التركيب الذي تدعيه الفلاسفة ، وهم أبطلوا التركيب الذي تدعونه من الجواهر الفردة ، وجمهور العقلاء أبطلوا هذا وهذا ، فإن كان هذا غير لازم في الأجسام المحسوسة المشاهدة ، بل هو باطل فكيف يدعى لزومه فيمن ليس كمثله شيء ، وإن عنيتم بالتجسيم تميز شيء منه عن شيء قيل لكم : انفصلوا أولا عن قول نفاة الصفات : لو كان له سمع وبصر وحياة وقدرة لزم أن يتمىز منه شيء عن شيء ، وذلك عين التجسيم ، فإذا انفصلتم عنه أجبناكم بما تجيبونهم به ، فإن أبيتم إلا الجواب منا ، قلنا لكم : إنما قام الدليل على إثبات إله قديم عني بنفيه عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، وكل أحد محتاج إليه ، وليس محتاجا إلى أحد ، ووجود كل أحد يستفاد منه ، ووجوده ليس مستفادا من غيره ، ولم يقم الدليل على استحالة تكثر أوصاف كماله وتعدد أسمائه الدالة على صفاته وأفعاله ، بل هو إله واحد ورب واحد ، وإن تكثرت أوصافه وتعددت أسماؤه .

التالي السابق


الخدمات العلمية