الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: فترى الذين في قلوبهم مرض أي نفاق كعبد الله بن أبي وأضرابه، كما قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - بيان لكيفية توليتهم، وإشعار بسببه، وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية، وهي للسببية المحضة.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز الكرخي كونها للعطف على ( إن الله ) إلخ، من حيث المعنى، والخطاب إما للرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - بطريق التلوين، وإما لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما كمن من المرض، والرؤية إما بصرية وقوله تعالى: يسارعون فيهم حال من المفعول - وهو الأنسب بظهور نفاقهم - وإما قلبية، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين: مسارعين في موالاتهم، إلا أنه قيل فيهم؛ مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة ( في ) على كلمة ( إلى ) للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها.

                                                                                                                                                                                                                                      وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بـ( في ) وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى، واختير أن تعدى المسارعة هنا بـ( إلى ) لتضمنها معنى الدخول، وقرئ ( فيرى ) بياء الغيبة على أن الضمير - كما قال أبو البقاء - لله تعالى، وقيل: لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو الجملة على حذف ( أن ) المصدرية، والرؤية قلبية، أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم، فلما حذفت [ ص: 158 ] ( أن ) انقلب الفعل مرفوعا كما في قوله:

                                                                                                                                                                                                                                      ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله - عز وجل -: يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة حال من فاعل ( يسارعون ) و( الدائرة ) من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها دوارة؛ لأنها من دار يدور، ومعناها لغة - على ما في القاموس – ما أحاط بالشيء، وفي شرح الملخص: إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير، يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا في حد جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف في أن: أي المعنيين حقيقة، فقيل: إنها حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقيل: بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها؛ لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها؛ لأن النقطة كانت دائرة، فسمي ما حصل من دورانها دائرة، فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه؛ لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضا مجاز؛ لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب، اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه الذي كان به مجازا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط، وها هنا ليس كذلك كما سمعت، لكن هذا تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق: لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا، فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة، أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر، ودولة من دوله، بأن ينقلب الأمر للكفار، وتكون الدولة لهم على المسلمين، فنحتاج إليهم، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن الكلبي أن المعنى: نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه كالجدب والقحط فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي ، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة، المنبئ عن الشك في أمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وقدر الله تعالى عليهم عللهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه: فعسى الله أن يأتي بالفتح فإن عسى منه - عز وجل - وعد محتوم؛ لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين؟!

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالفتح فتح مكة - كما روي عن السدي - وقيل: فتح بلاد الكفار واختاره الجبائي ، وقال قتادة ومقاتل : هو القضاء الفصل بنصره - عليه الصلاة والسلام - على من خالفه، وإعزاز الدين، و( أن يأتي ) في تأويل المصدر، وهو خبر لـ( عسى ) على رأي الأخفش ، ومفعول به على رأي سيبويه ، لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل.

                                                                                                                                                                                                                                      أو أمر من عنده وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة ، والجلاء لبني النضير عند مقاتل ، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج ، وقيل: موت رأس النفاق، وحكي ذلك عن الجبائي .

                                                                                                                                                                                                                                      فيصبحوا أي أولئك المنافقون، وهو عطف على ( يأتي ) داخل معه في حيز [ ص: 159 ] خبر ( عسى ) وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم، والمراد فيصيروا على ما أسروا في أنفسهم من الكفر والشك في أمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - نادمين خبر ( يصبح )، وبه يتعلق على ما أسروا ، وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن منصور، وابن أبي حاتم ، عن عمرو ، أنه سمع ابن الزبير يقرأ ( عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين ) قال عمرو : لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية