الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [45] وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الظالمون

                                                                                                                                                                                                                                      وكتبنا عليهم فيها أي: فرضنا على اليهود في التوراة: أن النفس بالنفس أي: مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق: والعين مفقوءة: بالعين والأنف مجدوعا: بالأنف والأذن مقطوعة: بالأذن والسن مقلوعة: بالسن والجروح قصاص أي: ذات قصاص، أي: يقتص فيها إذا أمكن. كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا - ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته - فلا قصاص، بل فيه حكومة عدل.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: هذه الآية مما وبخت به اليهود أيضا وقرعت عليه. فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا. فأقادوا النضري من القرظي، ولم يقيدوا القرظي من النضري. وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال ههنا - في تتمة الآية: فأولئك هم الظالمون لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر [ ص: 2003 ] الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه. فخالفوا وظلموا، وتعدوا على بعضهم بعضا - أفاده ابن كثير.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني - قوله تعالى: والعين بالعين والمعطوفات بعده، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل: أن النفس بالنفس لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء (كتبنا) مجرى (قلنا) وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك: (النفس بالنفس) مما يقع عليه (الكتب) كما تقع عليه (القراءة)، تقول: كتبت: الحمد لله، وقرأت: سورة أنزلناها. ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: أن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحا. كذا في "الكشاف". وقد توسع الخفاجي في "العناية" في بحث الرفع - هنا - على عادته في النحويات فانظره إن شئت.

                                                                                                                                                                                                                                      روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين نصب النفس ورفع العين، قال الترمذي: حسن غريب. وقال البخاري: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا - إذا حكي مقررا ولم ينسخ; كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر أصحابه - بهذه الآية. حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم. وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه "الشامل" اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: قال ابن كثير: احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة. بعموم هذه الآية الكريمة. وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2004 ] كتب في كتاب عمرو بن حزم: أن الرجل يقتل بالمرأة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2005 ] [ ص: 2006 ] [ ص: 2007 ] [ ص: 2008 ] وفي الحديث الآخر: المسلمون تتكافأ دماؤهم. وهذا قول جمهور العلماء. وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحكي عن الحسن وعثمان البستي، ورواية عن أحمد، أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل يجب ديتها. وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أن يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد. وقد خالفه الجمهور فيهما. ففي "الصحيحين" عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 2009 ] «لا يقتل مسلم بكافر» . وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة. إنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتل حر بعبد. وجاء في ذلك أحاديث لا تصح. وحكى الشافعي الإجماع. على خلاف قول الحنفية في ذلك. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقدير شرعنا. كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: كتاب الله القصاص; استدل بعموم (النفس بالنفس) من قال بقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة. وأجاب ابن الفرس بأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون، لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم بين سائر الأنبياء. لأن الاستعباد من الغنائم. ولم تحل لغيره. وعقد الذمة لبقاء الكفار. ولم يقع ذلك في عهد نبي. بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب. وأخر ذلك في هذه الأمة رحمة. وهذا جواب مبين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: والجروح قصاص استدل به في كل جرح قيل بالقصاص فيه - كاللسان والشفة وشجاج الرأس والوجه وسائر الجسد - وعلى أن نتف الشعر والضرب لا قصاص فيه، إذ ليس بجرح. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2010 ] وقال بعض الزيدية في "تفسيره": مذهب أئمة البيت ومالك والشافعي; أنه لا يقتل المسلم بالكافر. وقال أبو حنيفة: يقتل به، لا بالحربي ولا بالمستأمن من الحربيين أخذا بعموم الآية. قلنا: هي مخصصة بقوله في سورة الحشر: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة وهذا يقتضي نفي المساواة عموما. قالوا: أراد (في الآخرة). قلنا قال الله: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا قالوا: ليس هذا على عمومه؛ فإن له أخذ الدين منه، وذلك سبيل. قلنا: قال صلى الله عليه وسلم: لا يقتل المؤمن بكافر. فعم. قالوا أراد بكافر حربي. بدليل أن في آخر الخبر: ولا ذو عهد في عهد. والمعنى: لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي عوهد، بالكافر الذي لا عهد له. قلنا: قد تمت الجملة الأولى وهي قوله عليه السلام: لا يقتل المؤمن بكافر. وأما قوله: ولا ذو عهد في عهد، فهذه جملة أخرى. يريد: لا يقتل ما دام في العهد. مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة فالمراد: لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار عموما. وكذلك المعاهد لا يقتل بأحد من الكفار عموما. فقامت الدلالة على أن المعاهد يقتل ببعض الكفار. وبقي المؤمن على عمومه. وما قلنا مروي عن علي عليه السلام وزيد. وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2011 ] الخامس: عموم قوله تعالى: ( العين بالعين ) كعموم قوله تعالى: النفس بالنفس فما خصص ذلك العام، خصصه هنا، لكن ننبه على أطراف:

                                                                                                                                                                                                                                      منها -: أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى، والوجه عدم المساواة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها -: عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نصه في "الأحكام"، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي لعموم الآية. وقال في "المنتخب" ومالك: لا تؤخذ، لأن نورها أكثر فتطلب المساواة. واحتجوا بأنه مروي عن علي عليه السلام وعمر وابن عمر وعثمان; قال في "الشرح": وكان الإمام يحيى لا يصحح هذه الرواية عن علي عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها -: في كيفية القصاص. فإن قلعت العين ثبت القصاص بالقلع. وإن ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص. قال في "التهذيب": فقيل: بالقلع. وقيل: تحمى حديدة ثم تقرب من عينه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله تعالى: والأنف بالأنف فالكلام في عمومه كما تقدم. ويذكر هنا تنبيه؛ وهو أن القصاص إنما يكون إذا استؤصلت. لأن ذلك كالمفصل، لا إذا قطع بعضها. والعموم في قوله تعالى: والأذن بالأذن أيضا كما تقدم. والقصاص: إذا قطعت من أصلها لا إذا قطع البعض. ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصم.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا عموم قوله تعالى: والسن بالسن والقصاص: إذا قلع من أصله. ولا بد من المساواة. فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ولا بالمكسور. ولا الثنية بالضرس. ونحو ذلك. كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قوله تعالى: والجروح فهذا فيما تمكن فيه المساواة، ويؤمن على النفس لتحرج الأمة.

                                                                                                                                                                                                                                      كذا في "تفسير بعض الزيدية". وتتمة فقه هذه الآية يرجع فيه إلى مطولات كتب السنة وشروحها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2012 ] وقوله تعالى: فمن تصدق أي: من المستحقين: به أي: بالقصاص. أي: فمن عفا عن الجاني. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب: فهو أي: التصدق كفارة له أي: للمتصدق يكفر الله بها ذنوبه. وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه. وهذا التأويل الثاني روي عن كثير من السلف. كما أخرجه ابن أبي حاتم. واللفظ محتمل. إلا أن الأخبار الواردة في فضل العفو تشهد للأول.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن الشعبي; أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» . ورواه النسائي أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصيب بشيء من جسده فتركه لله، كان كفارة له.

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام ابن جرير عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار. فاندقت ثنيته. فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك. قال وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» . فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فخلى سبيل القرشي. فقال له معاوية: مروا له بمال.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2013 ] ورواه الإمام أحمد أيضا عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال القرشي: إن هذا دق سني، فقال معاوية: كلا. إنا سنرضيه. قال: فلما ألح عليه الأنصاري. قال معاوية: شأنك بصاحبك - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه بها خطيئة» . قال: فقال الأنصاري: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. سمعته أذناي ووعاه قلبي. يعني فعفا عنه الأنصاري. وهكذا رواه الترمذي وقال: غريب، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الظالمون لأنهم حكموا بخلاف حكم الله العدل. وتقدم في أول التنبيهات الخمس، قريبا، سر التعبير ههنا ب (الظالمون) قبله ب (الكافرين) فتذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية