الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثاني والخمسون والمائة بين قاعدة ما يقر من أنكحة الكفار وقاعدة ما لا يقر منها )

قال ابن يونس أنكحتهم عندنا فاسدة وإنما الإسلام يصححها وقال صاحب الجواهر لا يقرهم على ما هو فاسد عندهم إلا أن يكون صحيحا عندنا ولو اعتقدوا غصب امرأة أو رضاها بالإقامة مع الرجل بغير عقد أقررناهم عليه قاله الشافعي رضي الله عنه ترغيبا في الإسلام كما سقط عنهم القصاص والغصوب وما جنوه على المسلمين في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ويثبت ما اكتسبوه بعقود الربا وغيره من ثمن الخمر والخنزير كل ذلك ترغيبا في الإسلام لأنهم لو فهموا [ ص: 133 ] المؤاخذة بذلك لنفروا عن الإسلام وضابط مذهب مالك رحمه الله أن كل مفسدة تدوم كالجمع بين الأختين أو لا تدوم لكن أدركه الإسلام كالزواج في العدة فيسلم فيها فهو يبطل وإن عرى نكاحهم عن هذين القسمين صح بالإسلام وقال الشافعي وابن حنبل رضي الله عنهما عقودهم صحيحة واعلم أن قولنا أيها المالكية إن أنكحتهم فاسدة مشكل فإن ولاية الكافر للكافر صحيحة والشهادة عندنا ليست شرطا في العقد حتى نقول لا تصح شهادتهم لكفرهم فلو قلنا إنها شرط فأشهد أهل الذمة المسلمين ينبغي أن تصح والمسلم إذا تزوج بغير شهود له أن يشهد بعد العقد ويستقر عقده فينبغي التفصيل في عقودهم بين ما يكون مختل الشرط وبين ما لا يكون كذلك .

وأما الفضاء بالبطلان مطلقا فمشكل غاية ما في الباب أن صداقهم قد يقع بما لا يحل من الخمر والخنزير وقد يقع ذلك للمسلمين فتختل بعض الشروط أو كلها في بعض العقود فكما لا نقضي بفساد أنكحة عوام المسلمين وجهالهم من أهل البادية على الإطلاق بل نفصل ونقول ما صادف الأوضاع الشرعية واجتمعت شرائطه فهو صحيح سواء أسلموا أم لا وما لم يصادف فهو باطل قبل الإسلام وقد يصح بالإسلام كما نقدم رضاهم بالغصب ونحوه ترغيبا في الإسلام وعلى هذا القانون كان ينبغي أن لا يخير بين الأم وابنتها إذا أسلم عليهما بل يقول إن تقدم عقد البنت صحيحا تعينت من غير تخيير وإذا أسلم على عشر نسوة لا نقضي بالتخيير مطلقا بل نفرق كما قال أبو حنيفة إن وقع منها أربع أولا على وجه الصحة تعينت دون ما بعدها وإن عقد على العشر جملة واحدة خير بينهن لشمول البطلان لهن وكان يليق إذا حكمنا بفسادها مطلقا أن لا نفرق بين الموانع الماضية وما بقي بعد الإسلام لأن الكل فاسد إن كان المقصود هو الترغيب في الإسلام بسبب تقرير فاسد عقودهم لأن الزواج في العقد لا يزيد على قتل النفس في المفسدة وإن كان السبب أن الإسلام ينزل منزلة تجديد العقد فناسب التفرقة بين الماضي من الموانع والمقارن وينبغي إذا وطء في الكفر في نكاح صحيح مجتمع الشروط أن ذلك يوجب الإحصان إذا اتصل به الإسلام قال قلت { قوله صلى الله عليه وسلم لغيلان لما أسلم عن عشر نسوة اختر أربعا وفارق سائرهن } . وفي أبي داود { قال أنس بن الحارث أسلمت [ ص: 134 ] وتحتي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له ذلك فقال اختر أربعا منهن فهذه }

الأحاديث تقتضي أن عقودهن فاسدة إذ لو كانت صحيحة لكان السابق هو الصحيح والمتأخر هو المتعين للفساد الخامسة فما زاد عليها وكان الاختيار لا يكون إلا إذ عقد عقدا واحدا حتى لا يكون البعض أولى بالبقاء دون البعض الآخر لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خير مطلقا دل على أن الحكم كذلك سواء تقدم بعض العقود أو اتحدت العقود لأن هذه الأحاديث وردت في تأسيس قاعدة وتقرير أصل عام في الناس إلى يوم القيامة فلو كان يختلف الحال فيه لبينه صلى الله عليه وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهذا مستند ظاهر في فساد عقودهن وأن الأوائل في حكم الأواخر على السوية والأواخر المتأخرات العقود فاسدة العقود فكذلك الأوائل قلت إطلاق الخيار في هذه الأحاديث يحتمل وجهين أحدها أن تكون الأنكحة فاسدة كما قلت والثاني أن تكون المفسدات الواقعة في الكفر لا تعتبر كما تقدم من مذهبنا أنهم لو اعتقدوا غصب المرأة ومجرد رضاها بغير عقد ثم أسلموا على ذلك أقررناهم عليه فإن الإسلام يمنع من تأثير المفسدات المتقدمة من هذا النحو فهكذا كونها خامسة ونحو ذلك مفسدة في الإسلام وإذا قارن الكفر اعتبره صاحب الشرع ترغيبا في الإسلام وإذا احتمل الأمرين لم يلزم ما ذكرته من فساد العقول بل ذلك يدل على التخيير فقط وهذا مجمل فيما ذكرته من الفساد والصحة .

وهذا جواب سديد وهو خير من قول جماعة من الفقهاء لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه عقد عليهن عقدا واحدا فلذلك خيره أو وكان يعتقد أنهن عنده بطريق الغصب والتقرير على الزوجية بالغصب لأن ذلك كان مذهبا لهم فإن هذا فاسد لوجهين

( أحدهما ) أن الأصل عدم علمه عليه السلام

( الثاني ) لو كان الأمر كذلك لبينه عليه السلام لأنه تقرير قاعدة فيتعين إيضاحها وإزالة اللبس عنها وزوال كل ما يوجب وهما فيها ولما لم يبين عليه السلام أني إنما حكمت في هذه القضية بهذا الحكم لأني أعلم أن من أمرها أمرا يقتضي هذه للحكم علمنا أن المدرك غير علمه بأمر يخصها بل الحكم عام في جميع صور من يسلم كيف كانت عقوده وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه ترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في [ ص: 135 ] المقال معناه يقوم مقام التصريح بأن جميع الصور حكمها كذلك وإذا ظهر هذا الجواب ظهر أن الحق الأبلج القضاء على عقودهم بالصحة حتى يعلم فسادها كالمسلمين فإنه لم يدل دليل على أن الكفر مانع من عقد النكاح وقادح في صحته ولو أن امرأة كافرة لها أخوان كافر ومؤمن فأرادت الزواج منعنا المسلم من تزويجهما وقلنا لأخيها الكافر زوجها لأن المسلم لا ولاية له على الكافرة بل الكفار بعضهم أولى ببعض ولو أن نكاح الكافر فاسد لقلنا لهذه الكافرة لا سبيل لك إلى الزواج حتى تسلمي لأن الكفر أحد موانع صحة العقد عليك ولما لم يكن كذلك دل على صحة عقودهم .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثاني والخمسون والمائة بين قاعدة ما يقر من أنكحة الكفار وقاعدة ما لا يقر منها )

في بداية المجتهد لابن رشد الحفيد اتفق الفقهاء على أن الإسلام إذا كان من الزوج والزوجة وقد كان انعقد النكاح على من يصح ابتداء العقد عليها في الإسلام أن الإسلام يصحح ذلك واختلفوا فيما إذا انعقد النكاح على أكثر من أربع كعشر أو خمس أو على من لا يجوز الجمع بينهما في الإسلام كالأختين فقال مالك والشافعي وأحمد وداود يختار منهن أربعا ومن الأختين واحدة أيتهما شاء وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى يختار الأوائل منهم في العقد فإن تزوجهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن وقال ابن الماجشون من أصحاب مالك إذا أسلم وعنده أختان فارقهما جميعا ثم استأنف نكاح أيتهما شاء لم يقل بذلك أحد من أصحاب مالك غيره وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر وذلك أنه ورد في ذلك أثران

( أحدهما ) مرسل مالك أن { غيلان بن سلامة أسلم وعنده عشر نسوة أسلمن معه فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهم أربعا }

( الحديث الثاني ) حديث { قيس بن الحارث أنه أسلم على الأختين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اختر أيتهما شئت } ( وأما ) القياس المخالف للأثرين المذكورين فتشبيه العقد على الأواخر قبل الإسلام بالعقد عليهن بعد الإسلام أعني أنه كما أن العقد عليهن فاسد في الإسلام كذلك قبل الإسلام وفيه ضعف . ا هـ

بتصرف ووجه الضعف يتضح مما سيأتي فتنبه واختلف القائلون بأنه يختار أربعا من العشرة مطلقا وأي واحدة شاء [ ص: 167 ] من الأختين في وجهه فقال الشافعي وابن حنبل لأنا نحمل عقودهم على الصحة مطلقا ترغيبا لهم في الإسلام كما سقط عنهم القصاص والغصوب وما جنوه على المسلمين في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ويثبت ما اكتسبوه بعقود الربا وغيره من الخمر والخنزير ترغيبا في الإسلام لأنهم لو فهموا المؤاخذة بذلك لنفروا عن الإسلام وقال ابن يونس من أصحابنا أنكحتهم عندهم فاسدة وإنما الإسلام يصححها أي بمعنى أن كل مفسدة تدوم كالجمع بين الأختين أو لا تدوم لكن أدركه الإسلام كالزواج في العدة فيسلم فيها أي في العدة فهو يبطل وإن عرى نكاحهم عن هذين القسمين صح بالإسلام وقال صاحب الجواهر من أصحابنا لا نقهرهم على ما هو فاسد عند هم إلا أن يكون صحيحا عندنا ولو اعتقدوا غصب امرأة أو رضاها بالإقامة مع الرجل بغير عقد أقررناهم . ا هـ

قال الأصل سلمه ابن الشاط والقضاء ببطلان أنكحتهم مطلقا مشكل من وجوه

( الوجه الأول ) ولاية الكافر للكافرة صحيحة والشهادة عندنا ليست شرطا في العقد حتى نقول لا تصح شهادتهم لكفرهم على أنا لو قلنا إنها شرط وأشهد أهل الذمة المسلمين ينبغي أن تصح والمسلم إذا تزوج بغير شهود له أن يشهد بعد العقد ويستقر عقده وإنما غاية ما في الباب أن صداقهم قد يقع بما لا يحل من الخمر وهذا قد يقع في أنكحة عوام المسلمين وجهالهم من أهل البادية بحيث تحمل بعض الشروط أو كلها فكما لا نقضي بفساد أنكحتهم على الإطلاق بل نفصل ونقول ما صادف الأوضاع الشرعية واجتمعت شرائطه فهو صحيح وإلا فلا كذلك كان ينبغي أن لا نقضي بفساد أنكحتهم على الإطلاق بل نفصل بالتفصيل المذكور بأن نقول بصحة ما صادف سواء أسلموا أم لا وما لم يصادف فهو باطل قبل الإسلام وقد يصح بالإسلام كما تقدم أن المذهب تقرير رضاهم بالغصب ونحوه ترغيبا في الإسلام

( الوجه الثاني ) أنه كان ينبغي على هذا القانون أن لا يخير بين الأم وابنتها إذا أسلم عليهما بل نقول إن تقدم عقد البنت صحيحا تعينت من غير تخيير وإذا أسلم على عشر نسوة لا نقضي بالتخبير مطلقا بل نفرق كما قال أبو حنيفة إن وقع منها أربع أولا على وجه الصحة تعينت دون ما بعدها وإن عقد على العشرة جملة واحدة خير بينهن لشمول الطلاق لهن

( الوجه الثالث ) أنا إذا حكمنا بفساد أنكحتهم مطلقا كان يليق أن لا يفرق بين الموانع الماضية وما بقي [ ص: 168 ] بعد الإسلام لأن السبب في تقرير فاسد عقودهم إن كان هو الترغيب في الإسلام لم يكن هناك وجه للتفريق إذ لا يزيد الزواج في العدة على قتل النفس في المفسدة وإن كان هو أن الإسلام ينزل منزلة تجديد العقد كان هناك وجه للتفرقة بين الماضي من الموانع والمقارن إلا أنه كان ينبغي إذا وطئ في الكفر في نكاح صحيح مجتمع الشروط أن ذلك يوجب الإحصان إذا اتصل به الإسلام

( الوجه الرابع ) أن إطلاق الخيار في حديث غيلان المتقدم وفيما في أبي داود عن { أنس بن الحارث أنه قال أسلمت وتحتي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له ذلك فقال اختر أربعا بعامتهن } كما يحتمل أن تكون الأنكحة فاسدة كما قلت كذلك يحتمل أن تكون المفسدات الواقعة في الكفر لا تعتبر كما تقدم من مذهبنا أنهم لو اعتقدوا غصب المرأة ومجرد رضاها بغير عقد ثم أسلموا على ذلك أقررناهم عليه فإن الإسلام يمنع تأثير المفسدات المتقدمة من هذا النحو فهكذا كونها خامسة مفسدة في الإسلام وإذا قارن الكفر اعتبره صاحب الشرع ترغيبا في الإسلام وإذا احتمل الأمرين لم يلزم ما ذكرته من فساد العقود بل ذلك يدل على التخيير فقط وهذا مجمل فيما ذكرته من الفساد والصحة والأصل عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأن كلا من غيلان وأنس بن الحارث عقد عليهن عقدا واحدا أو أنهن عنده بطريق الغصب فأقره على الزوجية بالغصب لأن ذلك كان مذهبا لهم على أنه لو كان الأمر كذلك لبينه عليه السلام إني إنما حكمت في هذه القضية بهذا الحكم لأني أعلم من أمرها أمرا يقتضي هذا الحكم لأنه تقرير قاعدة فيتعين إيضاحها وإزالة اللبس عنها وزوال كل ما يوجب وهما فيها فلما لم يبين عليه السلام ذلك علمنا أن المدرك غير علمه بأمر يخصها بل الحكم عام في جميع صور من يسلم كيف كانت عقوده وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه ترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال إذ معناه يقوم مقام التصريح بأن جميع الصور حكمها كذلك فظهر أن الحق الأبلج القضاء على عقودهم بالصحة حتى يعلم فسادها كالمسلمين فإنه لم يدل دليل على أن الكفر مانع من عقد النكاح وقادح في صحته إذ لو أن امرأة كافرة لها أخوان كافر ومؤمن فأرادت الزواج منعنا المسلم من تزويجها وقلنا لأخيها الكافر زوجها

لأن المسلم لا ولاية له على الكافرة بل الكفار بعضهم أولى ببعض فلو أن نكاح الكافر فاسد لقلنا لهذه الكافرة لا سبيل لك إلى الزواج حتى تسلمي لأن [ ص: 169 ] الكفر أحد موانع صحة العقد عليك فلما لم يكن كذلك دل على صحة عقودهم . ا هـ بتغيير وتوضيح والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية