الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [59] قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وأن أكثركم فاسقون

                                                                                                                                                                                                                                      قل يا أهل الكتاب وصفوا بذلك تمهيدا لتبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم، أي: يا أصحاب الكتاب، العالمين بالنقائص والكمالات، التي يستحق على تحققها وفقدها الاستهزاء: هل تنقمون منا أي: ما تعيبون وتنكرون منا: إلا أن آمنا بالله وهو رأس الكمالات: وما أنـزل إلينا وهو أصل الاعتقادات والأعمال والأخلاق: وما أنـزل من قبل وهو يشهد لما أنزل إلينا: وأن أكثركم فاسقون أي: متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      لطائف:

                                                                                                                                                                                                                                      الأولى: إنما فسر (تنقمون) ب (تعيبون) و (تنكرون) لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة - كما قاله الراغب - لأنه لا يعاقب إلا على المنكر فيكون على حد قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      ونشتم بالأفعال لا بالتكلم



                                                                                                                                                                                                                                      فلذا حسن (انتقم منه) مطاوعه، بمعنى عاقبه وجازاه، وإلا فكيف يخالف المطاوع أصله؟ فافهم. و (نقم) ورد كعلم يعلم وضرب يضرب، [ ص: 2050 ] وهي الفصحى، ويعدى ب (من) و (على). وقال أبو حيان: أصله أن يتعدى ب (على). ثم (افتعل) المبني منه، يعدى ب (من) لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا (فعل) بمعنى (افتعل). كذا في "العناية".

                                                                                                                                                                                                                                      الثانية: في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس، حيث جعلوا الإيمان بما ذكر، موجبا لنقمه، مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه. فمعنى الآية: ليس شيء ينقم من المؤمنين. فلا موجب للاستهزاء. وهذا مما تقصد العرب في مثله، تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبدا. ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس، فمن الأول نحو:


                                                                                                                                                                                                                                      ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب



                                                                                                                                                                                                                                      ومن الثاني هذه الآية وشبهها. أي: ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئا إلا هذا، وهذا [ ص: 2051 ] لا يوجب لهم أن ينقموا شيئا، فليس شيء ينقمونه، فينبغي أن يؤمنوا به ولا يكفروا. وفيه أيضا التعريض بكفرهم، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: إسناد الفسق إلى أكثرهم؛ لأن من قال منهم ما قال وحمل غيره على العناد، طلبا للرياسة والجاه وأخذ الرشوة، إنما هو أكثرهم، ولئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية