الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ودليل آخر نقول: لا شك أن الرجوع في الكلام الوارد عن الحقيقة والظاهر المعهود إلى المجاز إنما يكون بأحد ثلاثة

أحدها: أن يعترض على الحقيقة مانع، يمنع من إجرائها [ ص: 263 ] على ظاهر الخطاب.

الثاني: أن تكون القرينة لها تصلح لنقلها عن حقيقتها إلى مجازها.

والثالث: أن يكون المحل الذي أضيفت إليه الحقيقة، أو المعنى الذي أضيفت إليه الحقيقة لا يصلح لها، فينتقل عنها إلى مجازها.

فإن قالوا: إن إثبات اليد الحقيقية، التي هي صفة لله تعالى، ممتنع لعارض يمنع. فليس بصحيح; من جهة أن الباري تعالى، ذات قابلة للصفات المساوية لها في الإثبات; فإن الباري تعالى في نفسه ذات، ليست بجوهر ولا جسم ولا عرض، ولا ماهية له تعرف، وتدرك وتثبت في شاهد العقل، ولا ورد ذكرها في نقل، وإذا ارتفع عنه إثبات الماهية. وإذا كان الكل مرتفعا، والمثل بذلك ممتنعا: فالنفار من قولنا: «يد» مع هذه الحال، كالنفار من قولنا: ذات، ومهما دفعوا به إثبات ذات مع ما وصفنا فهو سبيل إلى دفع يد، لأنه لا فرق عندنا بينهما في الإثبات، وإن عجزوا عن ذلك لثبوت الدليل القاطع، الملزم للإقرار بالذات، على ما هي عليه مما ذكرنا، فذاك هو الطريق إلى تعجيزهم، عن نفي يد هي صفة تناسب الذات، فيما ثبت لها من ذلك، وهذا ظاهر لازم لا محيد عنه. [ ص: 264 ] وإن قالوا: من جهة أنه اقترن بها قرينة، تدل على صلاحية نقلها، عن حقيقتها إلى مجازها. فذلك محال من جهات:

أحدها: أنا قد بينا أن إضافة الفعل إلى اليد، على الإطلاق لا يكون إلا والمراد به يد الصفة، وهذا توكيد لإثبات الصفة الحقيقية، ومحال أن يجتمع مؤكد للحقيقة مع قرينة ناقلة عن الحقيقة.

والثانية: أن القرائن قد ذكرناها، وهو أنه إذا أريد باليد النعمة قال: لفلان عندي يد. فعندي قرينة تدل على النعمة. وإذا أريد بها القدرة، قال: لفلان علي يد «فعلي» هي القرينة الدالة على القدرة، وكلاهما معدومان هاهنا.

والثالث: أن الخصم يدعي أن الداعي إلى ذلك ما يقتضيه الشاهد، من إثبات العضو والجارحة والجسمية، والبعضية والكمية والكيفية، الداخل على جميع ذلك، فحصل مثل وشبيه. وقد بينا أن ذلك محال في حقه: لأن نسبة اليد إليه تعالى كنسبة الذات إليه، على ما تقرر. فإذا ارتفع هذا بطل السبب المعارض للحقيقة، النافي لإثباتها والموجب لإبدالها بالمجاز. وإن قالوا: إن المحل الذي أضيفت إليه اليد -وهو ذات الباري- لا يصلح لإثبات اليد الحقيقية. فهذا محال، من جهة أنا قد اتفقنا على أن ذات الباري تقبل إضافة الصفات الذاتية على [ ص: 265 ] سبيل الحقيقة، كالوجود والذات، والعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من صفات الإثبات، على ما قدمناه.

وإن قالوا: إن المعنى الذي أضيف إلى الصفة، لا يصلح إضافة اليد الحقيقية إليه من جهة أن آدم كان جسما، وإضافة الفعل باليد إليه، يقتضي إثبات المماسة باليد الفاعلة، وذلك محال; من جهة أن يد الباري وذاته لا تقبل المماسة للأجسام. وهذا قول باطل; من جهة أنا إذا أثبتنا اليد، التي هي صفة لله تعالى، على مثل ما وصفنا انتفت المماسة، والفعل المضاف إليها نطقا ونصا ثابتا بطريق مقطوع عليه، فنفينا ما نفاه الإجماع، وأثبتنا ما أثبته النص والنطق، وجرى ذلك مجرى الذات قولا واحدا في الحكم.

والثاني: أن هذا إنما يلزم، إذا كان الفعل وكل الأحوال، لا بد له من المماسة، وقد وجدنا فعلا يؤثر وجوده في محل من محل آخر، ولا مماسة بينهما مع تساويهما في الجسمية; وذلك كما تراه من حجر المغناطيس; فإنه يؤثر في حركة الحديد، وانتقاله عن محله من غير مماسة، تقع بين الفاعل والمفعول، والعلة في ذلك قد تكون بين الفاعل والمفعول، وتستغني بذلك عن المماسة، ومثل هذا ظاهر لا خفاء به. فلما ثبت أنه لا سبيل [ ص: 266 ] إلى إثبات المماسة، أثبتنا الفعل للنص عليه، واستغنينا عن المماسة بواسطة.

قالوا: الأصل في اليد الفاعلة، أن تكون جارحة، عند التعارف والإطلاق، فانتقلنا عن ذلك إلى تأويلها في حق آدمي بما يصلح وهو النعمة. واليد في اللغة تقال: ويراد بها النعمة والمنة: ولهذا يقال: له عندي يد. وله عندي أياد. والله تعالى له في خلق آدم عليه السلام نعمتان: نعمة دين، ودنيا، فاقتضى ذلك تأويلها على ما ذكرناه.

قلنا: قد أبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل، أو الوجه الموجب اعتراض سبب مانع من إثبات الكلام على أصله وحقيقته، وما يبدر إليه الفهم والتعارف، في عادات أهل الخطاب، ولم يوجد ذلك هاهنا; ولأنه لو أراد باليد النعمة لقال: لما خلقت يدي لما خلقت نعمتي؛ فإن نعمة الدين والدنيا خلق لها.

ومما يحقق هذا أن الخلق بنعم الدين لا يصلح; لأن نعم الدين: الإيمان، والتعبد، والطاعة. وكل ذلك عندهم مخلوق، والمخلوق لا يخلق به. وكذلك نعم الدنيا هي اللذات من الشهوات، وهذه كلها مخلوقة، وبعضها أعراض، وهذا بطريق القطع لا يجوز أن يخلق به، فكان هذا التأويل من هذا الوجه باطل. [ ص: 267 ]

قالوا: إنما أضاف ذلك إلى آدم ليوجب له تشريفا وتعظيما على إبليس، ومجرد النسبة في ذلك كاف في التشريف; ولهذا قال في ناقة صالح [ناقة الله] ويقال في مكة: بيت الله، فجعل هذا التخصيص تشريفا، وإن كان ذلك لا يمنع من تساوي أنها كلها لله، وكذلك البيوت، ومثله هاهنا.

قلنا: التشريف بالنسبة إذا تجردت عن إضافة إلى صفة، اقتضى مجرد التشريف، فأما النسبة إذا اقترنت بذكر صفة، أوجب ذلك إثبات الصفة، التي لولاها ما تمت النسبة، فإن قولنا: خلق الله الخلق بقدرته. لما نسب الفعل إلى تعلقه بصفة الله، اقتضى ذلك إثبات إحاطة بصفة هي القدرة، ولا يكون مجرد النسبة واجب منها الصفة، فكذلك هاهنا لما كان ذكر التخصيص، مضافا إلى صفة وجب إثبات تلك الصفة. وهذا لا شك فيه ولا مرية، وبهذا يبعد عما ذكروه».

قال: «وأما قوله (بيدي) قدرتي; لأن اليد في اللغة عبارة عن القدرة، ولهذا أنشد في ذلك:


فسلمت وما لي بالأمور يدان

[ ص: 268 ] ويحقق هذا ويوضحه أن الخلق من جهة الله، إنما هو مضاف إلى قدرته، لا إلى يده، ولهذا يستقل في إيجاد الخلق بقدرته، ويستغني عن يد وآلة، يفعل بها مع قدرته.

قلنا: قد بينا هذا فيما مضى، وأبطلنا وجه الحاجة إلى التأويل به، إذ الحاجة مرتفعة، ولأن قدرة الله واحدة، لا تدخلها التثنية والجمع، وإذا امتنعت التثنية منها وضعا امتنع عنها ذلك لفظا.

قالوا: قد يرد لفظة التثنية والجمع والمراد به الواحد; ولهذا «العالم» اسم توحيد والمراد به الجمع، وقال تعالى ألقيا في جهنم كل كفار عنيد [ق: 24] والمراد به ألق، ومثله هاهنا.

قلنا: إثبات القدرة واحد لله تعالى، أصل ثبت بالأخبار والنقل، وهو مما يعتري القصر والتخصيص فيه، وحمل اليد عليه يقتضي إدخال الشك في أصل عظيم، يكفر مخالف الحق فيه، فكان مراعاة هذا الأصل، بحراسته عن مقام شك أولى من إدخال التأويل هاهنا، وهذا يكفي في الإعراض عن مثل هذا التأويل. [ ص: 269 ]

وأما قولهم: «العالم» اسم جمع توحيد. فليس كذلك; بل العالم اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولا يقع على الواحد.

قال: وأما قوله: ألقيا في جهنم [ق: 24] فإن ما احتجنا فيه إلى الانتقال عن لفظه لما ثبت أن المأمور واحد، فصار قوله (ألقيا) بمعنى ألق. وقد بينا هاهنا امتناع التأويل وإبطال سببه، وأن القائلين بهذه التأويلات، يجوزون أن يكون المراد بالانتقال غيرها، وإنما دخلوا فيها على سبيل الظن، ومحال نفي صفة لله تعالى بطريق هو على هذه الصفة».

التالي السابق


الخدمات العلمية