الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 162 ] فصل

في هديه - صلى الله عليه وسلم - في رقية اللديغ بالفاتحة

أخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : ( انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم من شيء ؟ فقال بعضهم : نعم والله إني لأرقي ، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا ، فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ : الحمد لله رب العالمين ، فكأنما أنشط من عقال ، فانطلق يمشي ، وما به قلبة قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا ، فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له ذلك فقال : " وما يدريك أنها رقية ؟ " ثم قال : قد أصبتم ، اقسموا واضربوا لي معكم سهما ) .

وقد روى ابن ماجه في " سننه " من حديث علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خير الدواء القرآن ) .

ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة ، فما الظن بكلام رب العالمين ، الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء [ ص: 163 ] التام ، والعصمة النافعة ، والنور الهادي ، والرحمة العامة الذي لو أنزل على جبل ؛ لتصدع من عظمته وجلالته . قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) [ الإسراء : 82 ] ، و" من " هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض ، هذا أصح القولين كقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) [ الفتح : 29 ] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور مثلها ، المتضمنة لجميع معاني كتب الله المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها ، وهي الله ، والرب ، والرحمن ، وإثبات المعاد ، وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة ، وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق ، وأنفعه وأفرضه ، وما العباد أحوج شيء إليه ، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم ، المتضمن كمال معرفته ، وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، والاستقامة عليه إلى الممات ، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق ، وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق ، والعمل به ، ومحبته ، وإيثاره ، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له ، وضال بعدم معرفته له .

وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر ، والشرع ، والأسماء ، والصفات ، والمعاد ، والنبوات ، وتزكية النفوس ، وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله ، وإحسانه ، والرد على جميع أهل البدع والباطل ، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير " مدارج السالكين " في شرحها .

وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من الأدواء ، ويرقى بها اللديغ .

وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله ، وتفويض الأمر كله إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النعم كلها ، وهي الهداية التي تجلب النعم ، وتدفع النقم من أعظم الأدوية الشافية الكافية .

[ ص: 164 ] وقد قيل : إن موضع الرقية منها : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل ، والالتجاء والاستعانة ، والافتقار والطلب ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهي عبادة الرب وحده ، وأشرف الوسائل وهي الاستعانة به على عبادته ، ما ليس في غيرها ، ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أتعالج بها آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها عليها مرارا ، ثم أشربه فوجدت بذلك البرء التام ، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع .

التالي السابق


الخدمات العلمية