الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 97 ] سورة الأنعام :

قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد، وتلك ختمت بفصل القضاء، وهما متلازمتان كما قال: وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين "الزمر: 75".

و [أقول] 1 قد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية زين للناس 2: أنه لما ذكر في آخر المائدة: لله ملك السماوات والأرض وما فيهن "المائدة: 120" على سبيل الإجمال، افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله.

فبدأ بذكر: أنه خلق السماوات والأرض، وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه قوله: وما فيهن في آخر المائدة، وضمن قوله: الحمد لله [أول الأنعام] أن له ملك جميع المحامد، وهو من بسط [جميع] 3: لله ملك السماوات والأرض وما فيهن [في آخر المائدة] .

ثم ذكر: أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلا مسمى، وجعل له أجلا آخر للبعث، وأنه منشئ القرون قرنا بعد قرن، ثم قال: قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله "12"، فأثبت له ملك جميع المنظورات، ثم قال: وله ما سكن في الليل والنهار "13"، فأثبت له ملك جميع المظروفات في الزمان، ثم ذكر أنه خلق سائر الحيوان، من الدواب والطير، ثم خلق النوم واليقظة، والموت والحياة، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن من النيرين، والنجوم، وفلق الإصباح، وخلق الحب والنوى، وإنزال الماء، وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات، والأنعام، ومنها حمولة وفرش، وكل ذلك تفصيل لملكه ما فيهن، وهذه مناسبة جليلة.

[ ص: 98 ] ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك، أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ، واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والملكوتي، والملكي والشيطاني، والحيواني والنباتي، وما تضمنته من الوصايا، فكلها متعلقة بالمعاش والقوام الدنيوي، ثم أشار إلى أشراط الساعة [والبعث] 4.

فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها، وما يتعلق بها، وما يرجع إليها، فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها، وتقديمها على ما تقدم نزوله منها.

وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير سورة البقرة في جمعها [الأصول و] 6 العلوم والمصالح الدينية، وما ذكر فيها من العبادات المحضة، فعلى وجه الاختصار والإيماء; كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه، فإنه على وجه الإيجاز والإشارة.

فإن قلت: فلم لا أفتتح القرآن بهذه السورة مقدمة على سورة البقرة; لأن بدء الخلق سابق على الأحكام والتعبدات؟!

قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والآخرة مقدمة على مصالح المعاش والدنيا، ولأن المقصود [من الخلق] 5 إنما هو العبادة، فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع، ولأن علم بدء الخلق كالفضلة، وعلم الأحكام والتكاليف متعين على كل واحد; [ ص: 99 ] فلذلك لا ينبغي النظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه.

ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر -أتقن مما تقدم- وهو: أنه لما ذكر في سورة المائدة: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا "المائدة: 87" إلى آخره [ثم ذكر بعده: ما جعل الله من بحيرة "المائدة: 103" إلى آخره] 8 فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم، وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم، فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة، فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال، وتفصيلا وبسطا، وإتماما وإطنابا.

وافتتحت بذكر الخلق والملك; لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا، وتحريما وتحليلا، فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه.

وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قوله: رب العالمين وبالبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله: الذي خلقكم والذين من قبلكم "البقرة: 21"، وقوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا "البقرة: 29"، وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله: والأنعام والحرث "آل عمران: 14"، وقوله: كل نفس ذائقة الموت "آل عمران: 185" الآية.

[ ص: 100 ] وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق، والتقبيح لما حرموه على أزواجهم، وقتل البنات بالوأد.

وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها.

وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة.

الأول: افتتاحها بالحمد.

والثاني: مشابهتها للبقرة، المفتتح بها السور المدنية، من حيث أن كلا منهما نزل مشيعا. ففي حديث أحمد: "البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا"، وروى الطبراني وغيره من طرق: "أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك"، وفي رواية: "خمسمائة ملك".

ووجه آخر; وهو: أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد. [فأول القرآن سورة " الحمد " ] 5، وهذه للربع الثاني، والكهف للربع الثالث، وسبأ وفاطر للربع الرابع. وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة إلى أسرار القرآن كنقطة من 2 بحر.

ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق، ذكر فيها ما وقع عند بدء [ ص: 101 ] الخلق; وهو قوله: كتب على نفسه الرحمة "12"، ففي الصحيح: "لما فرغ الله من الخلق، وقضى القضية، كتب كتابا عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" .

التالي السابق


الخدمات العلمية