الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أن المستحق للمحبة هو الله وحده .

وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله ، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود ؛ لأنه عين حب الله تعالى ، وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ، ومحب المحبوب محبوب ، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل ، فلا يتجاوزه إلى غيره ، فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله . تعالى ولا مستحق للمحبة سواه ، وإيضاحه بأن نرجع إلى الأسباب الخمسة التي ذكرناها ، ونبين أنها مجتمعة في حق الله تعالى بجملتها ، ولا يوجد في غيره إلا آحادها وأنها حقيقة في حق الله تعالى ووجودها في حق غيره وهم وتخيل ، وهو مجاز محض لا حقيقة له ، ومهما ثبت ذلك انكشف لكل ذي بصيرة ضد ما تخيله ضعفاء العقول والقلوب من استحالة حب الله تعالى تحقيقا وبان أن التحقيق يقتضي أن لا نحب أحدا غير الله تعالى .

فأما السبب الأول وهو حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده ، وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه وقواطع كماله ، فهذه جبلة كل حي ولا يتصور أن ينفك عنها ، وهذا يقتضي غاية المحبة لله تعالى ، فإن من عرف نفسه وعرف ربه عرف قطعا أنه لا وجود له من ذاته ، وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله فهو المخترع الموجد له ، وهو المبقي له ، وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه ، وخلق الهداية إلى استعمال الأسباب ، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته ، بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد وهو هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء ، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل لخلقته ، وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحي الذي هو قائم بذاته ، وكل ما سواه قائم به ، فإن أحب العارف ذاته ، ووجود ذاته مستفاد من غيره ، فبالضرورة يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقا موجدا ومخترعا مبقيا وقيوما بنفسه ومقوما لغيره ، فإن كان لا يحبه فهو لجهله . بنفسه وبربه ، والمحبة ثمرة المعرفة فتنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها ، وتقوى بقوتها ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله تعالى من عرف ربه أحبه ، ومن عرف الدنيا زهد فيها .

وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه ، ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس ، فإن الكل من آثار قدرته ، ووجود الكل تابع لوجوده ، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر بل هذا المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام ؛ إذ تخيلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها ، وموجود بها ، وهو خطأ محض إذ انكشف لأرباب القلوب انكشافا أظهر من مشاهدة الأبصار أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعا عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام الكثيفة ، كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضا حاصل من قدرة الله تعالى ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق فإذا إن كان حب الإنسان نفسه ضروريا فحبه لمن به قوامه أولا ودوامه ثانيا في أصله وصفاته وظاهره وباطنه ، وجواهره وأعراضه أيضا ضروري إن عرف ذلك كذلك ، ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته ، وهو عالم الشهادة الذي يشاركه البهائم في التنعم به والاتساع فيه دون عالم الملكوت الذي لا يطأ أرضه إلا من يقرب إلى شبه من الملائكة فينظر فيه بقدر قربه في الصفات من الملائكة ويقصر عنه بقدر انحطاطه إلى حضيض عالم البهائم .

التالي السابق


(بيان أن المستحق للمحبة هو الله تعالى)

(وحده، وإن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى و) أن (حب الرسول) المرسل من عنده (محمود; لأنه عين حب الله تعالى، وكذلك حب العلماء والأتقياء) الذين هم أحباب الله; (لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب، ومحب المحبوب محبوب، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل، فلا يتجاوزه إلى غيره، فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر) المنورة (إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه، وإيضاحه بأن نرجع إلى الأسباب الخمسة التي ذكرناها، ونبين أنها مجتمعة في حق الله تعالى بجملتها، ولا يوجد في غيره إلا آحادها وأنها حقيقة في حق الله تعالى ووجودها في حق غيره وهم وتخيل، وهو مجاز محض لا حقيقة له، ومهما ثبت ذلك انكشف لكل ذي بصيرة ضد ما تخيله ضعفاء العقول من استحالة حب الله تعالى تحقيقا وبان) ، أي: ظهر (أن التحقيق يقتضي أن لا تحب أحدا غير الله تعالى، فأما السبب الأول) من الأسباب الخمسة، (وهو حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده، وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه وقواطع كماله، فهذه جبلة كل حي ولا يتصور أن ينفك عنها، وهذا يقتضي غاية المحبة لله تعالى، فإن من عرف نفسه) بغاية النقص (وعرف ربه) بغاية الكمال (عرف قطعا أنه لا وجود له من ذاته، وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله تعالى وإلى الله) تعالى مصيره (وبالله) تعالى قيامه (فهو المخترع الموجد له، وهو المبقي له، وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه، وخلق الهداية إلى استعمال الأسباب، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته، بل هو محو محض وعدم صرف) وظلمة خالصة (لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد) من المحو إلى الإثبات، ومن العدم إلى الوجود، ومن الظلمة إلى النور (وهو هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل لخلقته، وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحي الذي هو قائم بذاته، وكل ما سواه قائم به، فإن أحب العارف ذاته، ووجود ذاته مستفاد من غيره، فبالضرورة يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقا موجدا ومخترعا مبقيا وقيوما بنفسه ومقوما لغيره، فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه، والمحبة ثمرة المعرفة) لا عينها; لأن الإنسان لا يحب إلا من يعرف، فالمحبة تتبع المعرفة بالضرورة، يفهم هذا من قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، أي: جهلها، فمعرفة النفس موجبة لمعرفة الرب (تنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها، وتقوى بقوتها [ ص: 560 ] ولذلك قال الحسن البصري) -رحمه الله تعالى- (من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها) ، وقد تقدم قريبا (وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي هو قوام نفسه، ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل) ومداره (وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجرة) ولذا قيل للعقل الأول الظل الأول; لأنه أول عين ظهرت بنوره تعالى وقبلت صورة الكثرة التي هي شئون الوحدة الذاتية، وقيل للإنسان الكامل المتحقق بالحضرة الواحدية ظل الإله، وروى الطبراني والبيهقي من حديث أبي بكر: السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله. (والنور بالإضافة إلى الشمس، فإن الكل من آثار قدرته، ووجود الكل تابع لوجوده، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر) ، وهذا السياق إذا تأملته رأيته مائلا إلى وحدة الوجود الذي قال به أهل الحقيقة، وهي مسألة مشهورة شديدة الاختلاف بينهم وبين علماء الظاهر، وقد أشار المصنف إلى ذلك في عدة مواضع من كتابه هذا منها في هذا الموضع، ومنها ما مر في كتاب الصبر والشكر، وهو قوله: النظر بعين التوحيد المحض يعرفك أنه ليس في الوجود غيره تعالى إلخ . . وصرح بذلك في كتابه مشكاة الأنوار وغيره، وقد صرح بها الشيخ الأكبر -قدس سره- في مواضع من كتابه الفتوحات، (بل هذا المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام; إذ تخيلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها، وموجود بها، وهو خطأ محض إذ انكشف لأرباب القلوب انكشافا أظهر من مشاهدة الأبصار) وأقوى منها (أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعا عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام الكثيفة، كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضا حاصل من قدرة الله تعالى) فالنور الحق هو الله تعالى لذاته وبذاته، ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها، وهي مستفادة من النور الأول، وإنما الحقيقي نوره فقط، وإن الكل نوره وكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر ... .

الثاني كنسبة النور إلى الشمس (ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق) لاتساعها وضيق ظروف الأمثلة، (فإذا إن كان حب الإنسان نفسه ضروريا فحبه لمن به قوامه أولا ودوامه ثانيا في أصله وصفاته وظاهره وباطنه، وجواهره وأعراضه أيضا ضروري إن عرف ذلك كذلك، ومن خلا عن هذا الحب فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالفه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته، وهو عالم الشهادة الذي تشاركه البهائم في التنعيم به والاتساع فيه دون عالم الملكوت الذي لا يطأ أرضه إلا من يقرب إلى شبه من الملائكة فينظر فيه بقدر قربه في الصفات من الملائكة ويقصر عنه بقدر انحطاطه إلى حضيض عالم البهائم) اعلم أن في عالم الملكوت عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة، ومن لم يسافر إلى هذا العالم وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعد ومحروم عن خاصية الإنسانية، بل أضل من البهيمة; إذ لم تستعد البهيمة أجنحة للطيران إلى هذا العالم وعالم الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشرة بالإضافة إلى اللب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، وكالظلمة بالإضافة إلى النور، وكالسفل بالإضافة إلى العلو، والملائكة من جملة عالم الملكوت عاكفون في حضرة القدس، ومنها يشرفون إلى العالم الأسفل، والملك عبارة عن موجود مقدس عن الشهوة والغضب فليست أفعاله بمقتضاهما، بل داعية إلى طلب القرب إلى الله تعالى، فمن غلب الشهوة والغضب حتى ملكهما وضعفا عن تحريكه وتسكينه أخذ بذلك شبها من الملائكة، وكذلك إن فطم نفسه عن الجمود والخيالات والمحسوسات وأنس بالإدراك أخذ شبها من الملائكة، فإن خاصة الحياة الإدراك والفعل وإليهما يتطرق النقصان والتوسط والكمال، ومهما اقتدى بالملائكة في هاتين الخاصتين كان أبعد عن البهيمة .




الخدمات العلمية