الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى .

اعلم أن أسعد الخلق حالا في الآخرة أقواهم حبا لله تعالى ، فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى ودرك سعادة لقائه وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير منغص ومكدر ومن غير رقيب ومزاحم ومن غير خوف انقطاع إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة وإنما يكتسب العبد حب الله تعالى في الدنيا ، وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن ؛ لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة وأما قوة الحب واستيلاؤه حتى ينتهي إلى الاستهتار الذي يسمى عشقا ، فذلك ينفك عنه الأكثرون وإنما يحصل ذلك بسبين أحدهما قطع علائق الدنيا وإخراج حب غير الله من القلب ؛ فإن القلب مثل الإناء لا يتسع للخل مثلا ما لم يخرج منه الماء ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وكمال الحب في أن يحب الله : عز وجل : بكل قلبه .

وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية من قلبه مشغولة بغيره ، فبقدر ما يشغل بغير الله ينقص منه حب الله ، وبقدر ما يبقى من الماء في الإناء ينقص من الخل المصبوب فيه .

وإلى هذا التفريد والتجريد الإشارة بقوله تعالى : قل الله ثم ذرهم في خوضهم وبقوله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، بل هو معنى قولك : لا إله إلا الله أي ، لا معبود ولا محبوب سواه فكل محبوب فإنه معبود ؛ فإن العبد هو المقيد والمعبود هو المقيد به .

وكل محب فهو مقيد بما يحبه ؛ ولذلك قال الله تعالى : أرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال : صلى الله عليه وسلم : أبغض إله عبد في الأرض الهوى ولذلك قال عليه السلام : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ومعنى الإخلاص أن يخلص قلبه لله ، فلا يبقى فيه شرك لغير الله ، فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط ومن هذا حاله فالدنيا سجنه ، لأنها مانعة له من مشاهدة محبوبه ، وموته خلاص من السجن وقدوم على المحبوب فما حال من ليس له إلا محبوب واحد ، وقد طال إليه شوقه وتمادى عنه حبسه فخلي ، من السجن ومكن من المحبوب وروح بالأمن أبد الآباد ؛ فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا ، ومنه حب الأهل والمال والولد والأقارب والعقار والدواب والبساتين والمنتزهات ، حتى إن المنفرح بطيب أصوات الطيور وروح نسيم الأسحار ملتفت إلى نعيم الدنيا ومتعرض لنقصان حب الله تعالى بسببه فبقدر ما أنس بالدنيا فينقص أنسه بالله ولا يؤتى أحد من الدنيا شيئا إلا وينقص بقدره من الآخرة بالضرورة كما أنه لا يقرب الإنسان من المشرق إلا ويبعد بالضرورة من المغرب بقدره ولا ، يطيب قلب امرأته إلا ويضيق به قلب ضرتها ؛ فالدنيا والآخرة ضرتان وهما كالمشرق والمغرب وقد انكشف ذلك لذوي القلوب انكشافا أوضح من الإبصار بالعين ، وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريق الزهد وملازمة الصبر والانقياد إليهما ، بزمام الخوف والرجاء ، فما ذكرناها من المقامات كالتوبة والصبر والزهد والخوف والرجاء هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركني المحبة ، وهو تخلية القلب عن غير الله ، وأوله الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار ، ثم يتشعب منه الخوف والرجاء ، ويتشعب منهما التوبة والصبر عليهما ، ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا وفي المال والجاه وكل حظوظ الدنيا ، حتى يحصل من جميعه طهارة القلب عن غير الله فقط حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله وحبه ؛ فكل ذلك مقدمات تطهير القلب ، وهو أحد ركني المحبة وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : الطهور شطر الإيمان كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة .

التالي السابق


(بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى)

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن أسعد الخلق حالا أقواهم حبا لله تعالى، فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى) والعرض عليه (ودرك سعادة لقائه وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه) وحنينه إليه (وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير منغص و) لا (مكدر ومن غير رقيب ومزاحم) له في مشاهدته (ومن غير خوف انقطاع) أو نقص (إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة [ ص: 586 ] وإنما يكتسب العبد حب الله تعالى في الدنيا، وهو فيها، وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن؛ لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة) الذي هو أساس الإيمان، (وأما قوة الحب واستيلاؤه) عليه بالكلية (حتى ينتهي إلى) حد (الاستهتار الذي يسمى عشقا، فذلك ينفك عنه الأكثرون) ، وقد تقدم أن العشق هو مبالغة الحب، (وإنما يحصل ذلك بشيئين أحدهما قطع علائق الدنيا وإخراج حب غير الله من القلب؛ فإن القلب مثل الإناء الذي لا يتسع للخل مثلا ما لم يخرج منه الماء و) إليه يشير قوله تعالى: ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ، أي وإنما هو قلب واحد لا يتسع لشيئين، (وكمال الحب في أن يحب الله -عز وجل- بكل قلبه، وما دام يلتفت إلى غيره فزاوية قلبه مشغولة بغيره، فبقدر ما يشتغل بغير الله ينقص منه حب الله تعالى، وبقدر ما يبقى من الماء في الإناء ينقص من الخل المصبوب فيه وإلى هذا التفريد والتجريد الإشارة بقوله تعالى: قل الله ثم ذرهم في خوضهم) يلعبون (وبقوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، بل هو معنى قولك: لا إله إلا الله، أي لا معبود ولا محبوب سواه) ، وإنما قلنا ذلك (فإن كل محبوب فإنه معبود؛ فإن العبد هو المقيد والمعبود هو المقيد به، وكل محب فهو مقيد بما يحبه؛ ولذلك قال تعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه ) أي جعل هواه وما يحبه مألوها له ومعبودا وتقيد به، (وقال -صلى الله عليه وسلم-: أبغض إله عبد في الأرض الهوى) . رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف: أبغض إله عبد عند الله في الأرض هو الهوى، (وقال -صلى الله عليه وسلم-: من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة) . رواه البزار والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد ورواه البغوي والطبراني من حديث أبي سعيد الخدري، وقد تقدم، ورواه ابن النجار من حديث أنس بزيادة، قيل: أفلا أبشر الناس، قال: إني أخاف أن يتكلوا، (ومعنى الإخلاص أن يخلص قلبه لله، فلا يبقى فيه شرك لغير الله، فيكون الله محبوب قلبه ومعبود قلبه ومقصود قلبه فقط) ؛ ولذلك اختارت مشايخ هذه الطائفة العلية أن يقولوا بعد ذكرهم ثلاث مرات: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، وقد جاءت الإشارة إلى ما ذكره المصنف في معنى الإخلاص في الخبر الذي يروى عن زيد بن أرقم: من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: وما إخلاصها؟ قال: أن تحجزها عن محارم الله. رواه الحكيم والطبراني وصاحب الحلية، (ومن هذا حاله فالدنيا سجنه) ، أي: بمنزلة السجن عليه؛ (لأنها مانعة عن مشاهدة محبوبه، وموته خلاص من السجن وقدوم على المحبوب) ، فهذا لا محالة يحب الموت، (فما حال من ليس له إلا محبوب واحد، وقد طال إليه شوقه وتمادى عنه حبسه) ، أي: طال عليه (فخلي من السجن ومكن من المحبوب وروح بالأمن أبد الآباد؛ فأحد أسباب ضعف حب الله في القلوب قوة حب الدنيا، ومنه حب الأهل والمال والولد والأقارب والعقار والدواب والبساتين والمنزهات، حتى إن المتفرج بطيب أصوات الطيور وروح نسيم الأسحار ملتفت إلى نعيم حب الدنيا ومتعرض لنقصان حب الله بسببه) ، وكان المراد منه إذا أنس بها ووقف معها وإلا فبمجرد ميل القلب إليها من غير سكون بها لا يكون محبا لها، (فبقدر ما أنس بالدنيا فينقص أنسه بالله ولا يؤتى أحد من الدنيا شيئا إلا وينقص بقدره من الآخرة بالضرورة) ، كما دلت عليه الأخبار (كما أنه لا يقرب لإنسان من المشرق إلا ويبعد بالضرورة عن المغرب بقدره، و) كما (لا يطيب قلب امرأته إلا ويضيق بها قلب ضرتها؛ فالدنيا والآخرة ضرتان) إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. روي ذلك من كلام علي -رضي الله عنه- مذكور في نهج البلاغة، (وهما كالمشرق والمغرب) . روي ذلك من كلام [ ص: 587 ] كعب الأحبار، كما في الحلية، وقد سبق كل ذلك في كتاب ذم الدنيا، (وقد انكشف ذلك لذوي القلوب) والبصائر (انكشافا أوضح من الإبصار بالعين، وسبيل قلع حب الدنيا من القلب سلوك طريق الزهد) عنها (وملازمة الصبر) بأنواعه المذكورة في محله (والانقياد إليهما) ، أي: إلى طريق الزهد والصبر (بزمام الخوف والرجاء، فما ذكرناه من المقامات كالتوبة والصبر والزهد والخوف والرجاء هي مقدمات ليكتسب بها أحد ركني المحبة، وهو تخلية القلب عن غير الله، وأوله الإيمان بالله واليوم الآخر والجنة والنار، ثم يتشعب منه الخوف والرجاء، ويتشعب منهما التوبة والصبر عليهما، ثم ينجر ذلك إلى الزهد في الدنيا والمال وفي الجاه وكل حظوظ الدنيا، حتى يحصل من جميعه طهارة القلب عن غير الله فقط حتى يتسع بعده لنزول معرفة الله وحبه فيه؛ فكل ذلك مقدمات تطهير القلب، وهو أحد ركني المحبة وإليه الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: الطهور شطر الإيمان) . رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث أبي مالك بزيادة: والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع فمعتقها أو موبقها. (كما ذكرناه في أول كتاب الطهارة) ، فلا نعيده ثانية .




الخدمات العلمية