الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان السبب في تفاوت الناس في الحب .

اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا ؛ إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات والأسماء التي قرعت سمعهم . فتلقنوها وحفظوها وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا لها معنى فاسدا ، بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين ، والمتخيلون هم الضالون ، والعارفون بالحقائق هم المقربون .

وقد ذكر الله حال الأصناف الثلاثة في قوله تعالى : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم الآية .

فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالا فنقول : أصحاب الشافعي مثلا : يشتركون في حب الشافعي رحمه الله الفقهاء منهم والعوام ؛ لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله ، ولكن العامي يعرف علمه مجملا والفقيه يعرفه مفصلا ، فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه ، فإن رأى تصنيفا آخر أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه ؛ لأنه تضاعفت معرفته بعلمه ، وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه ، فإذا سمع من غرائب شعره ما عظم فيه حذقه وصنعته ازداد به معرفة وازداد له حبا ، وكذا سائر الصناعات والفضائل .

والعامي قد يسمع أن فلانا مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدري ما في التصنيف فيكون ، له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل مجمل ، والبصير إذا فتش عن التصانيف واطلع على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة ؛ لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف ، والعالم بجملته صنع الله تعالى وتصنيفه والعامي يعلم ذلك ويعتقده وأما البصير فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه حتى يرى في البعوض مثلا من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه ، فيزداد له حبا وكلما ازداد على أعاجيب صنع الله اطلاعا استدل بذلك على عظمة الله الصانع وجلاله وازداد به معرفة وله حبا .

وبحر هذه المعرفة أعني معرفة عجائب صنع الله تعالى بحر لا ساحل له فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب ؛ فإن من يحب الله مثلا لكونه محسنا إليه منعما عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته ؛ إذ تتغير بتغير الإحسان ، فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء .

وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته ؛ فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه .

فهذا وأمثاله هو سبب تفاوت الناس في المحبة والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة .

ولذلك ؛ قال تعالى : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا .

التالي السابق


(بيان السبب في تفاوت الناس في الحب)

(اعلم) أسعدك الله تعالى (أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل الإيمان ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا؛ إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها) ، وهو كالقدرة الحاصلة لهم بالغنى في المال، فمن واحد يملك الدانق والدرهم، ومن واحد يملك ألفا، فكذا العلوم، بل التفاوت في العلوم أعظم؛ لأن المعلومات لا نهاية لها، وأعيان الأموال أجسام، والأجسام متناهية لا يتصور أن ينتفى النهاية عنها، فإذا قد عرفت كيف تتفاوت الخلق في بحار معرفة الله تعالى، وإن ذلك لا نهاية له، (وأكثر الناس ليس لهم من الله تعالى إلا الصفات والأسماء التي قرعت سمعهم فتلقفوها وحفظوها) ، فهو السبيل الذي فتح لهم فيه، وفيه تتفاوت مراتبهم (وربما تخيلوا لها معاني يتعالى عنها رب الأرباب) جل جلاله، (وربما لم يطلعوا على حقيقتها ولا تخيلوا معنى فاسدا، بل آمنوا بها إيمان تسليم وتصديق واشتغلوا بالعمل وتركوا البحث) فيها، (وهؤلاء هم أهل السلامة من أصحاب اليمين، والمتخيلون) لها بالمعاني الفاسدة (هم الضالون، والعارفون بالحقائق هم المقربون) ؛ فهؤلاء ثلاثة أصناف، (وقد ذكر الله حال) هذه (الأصناف الثلاثة في قوله: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم الآية) . وتمامها: وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم وبيان تفاوت المراتب هو أنه لا يخفى عليك أنه ليس من يعلم أنه عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد واطلع على بدائع المملكة وغرائب الصنعة ممعنا في التفصيل ومستغرقا في دقائق الحكمة ومستوفيا لطائف التدبير ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله تعالى، نائلا لتلك الصفات نيل اتصاف بها، بل بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى، وفي تفاصيل ذلك ومقاديره تتفاوت الأنبياء والأولياء، (فإن كنت لا تفهم الأمور إلا بالأمثلة فلنضرب لتفاوت الحب مثالا فنقول: أصحاب الشافعي - مثلا - يشتركون في حب الشافعي -رحمه الله تعالى- الفقهاء منهم والعوام؛ لأنهم مشتركون في معرفة فضله ودينه وحسن سيرته ومحامد خصاله، ولكن العامي يعرف عمله مجملا والفقيه يعرفه مفصلا، فتكون معرفة الفقيه به أتم وإعجابه به وحبه له أشد) ، أو نقول: إن الشافعي -رحمه الله تعالى- يعرفه بواب داره ويعرفه المزني تلميذه، والبواب يعرف أنه عالم بالشرع ومصنف فيه ومرشد خلق الله إلى الله على الجملة، والمزني يعرفه لا كمعرفة البواب، بل بمعرفة محيطه بتفاصيل صفاته ومعلوماته، بل العالم الذي يحسن عشرة أنواع من العلوم لا يعرفه بالحقيقة تلميذه الذي لم يحصل إلا نوعا واحدا فضلا عن خادمه الذي لم يحصل شيئا من علومه، بل الذي حصل علما واحدا فإنما عرف على التحقيق عشرة إذا ساواه في ذلك العلم حتى لم يقصر عنه؛ فإن قصر عنه فليس يعرف بالحقيقة ما قصر عنه إلا بالاسم وإبهام الجملة، وهو أنه يعرف أنه يعلم شيئا سوى ما علمه فكذلك فافهم تفاوت الخلق في معرفة الله تعالى، وأيضا (فإن من رأى تصنيف مصنف فاستحسنه وعرف به فضله أحبه لا محالة ومال إليه قلبه، فإن رأى تصنيفا آخر أحسن منه وأعجب تضاعف لا محالة حبه؛ لأنه تضاعفت معرفته بعلمه، وكذلك يعتقد الرجل في الشاعر أنه حسن الشعر فيحبه، فإذا سمع من غرائب شعره وصنعته ما عظم فيه حذقه ازداد به معرفة وازداد له حبا، وكذا سائر الصناعات والفضائل، والعامي قد يسمع أن فلانا مصنف وأنه حسن التصنيف ولكن لا يدري ما في التصنيف، فتكون له معرفة مجملة ويكون له بحسبه ميل [ ص: 595 ] مجمل، والبصير) الماهر (إذا فتش عن التصانيف واطلع على ما فيها من العجائب تضاعف حبه لا محالة؛ لأن عجائب الصنعة والشعر والتصنيف تدل على كمال صفات الفاعل والمصنف، والعالم بجملته) من قمة العرش إلى منتهى الثرى (صنع الله المتقن وتصنيفه) وإيجاده (والعامي يعلم ذلك ويعتقده) ولا ينكره (وأما البصير) في العلم (فإنه يطالع تفصيل صنع الله تعالى فيه حتى يرى في البعوض مثلا من عجائب صنعه ما ينبهر به عقله ويتحير فيه لبه ويزداد بسببه لا محالة عظمة الله وجلاله وكمال صفاته في قلبه، فيزداد له حبا كلما ازداد على أعاجيب صنع الله اطلاعا) وتسلقا (استدل بذلك على عظمة الله الصانع وجلاله وازداد به معرفة وله حبا، وبحر هذه المعرفة - أعني معرفة عجائب صنع الله تعالى- بحر لا ساحل له) ينتهي إليه (فلا جرم تفاوت أهل المعرفة في الحب لا حصر له) ثم إن تلك المعرفة الحاصلة من النظر في عجائب صنع الله تعالى ليست معرفة تامة حقيقية؛ لأنا إذا علمنا ذاتا عالمة، فقد علمنا شيئا مهما لا ندري حقيقته لكن ندري أن له صفة العلم، فإن كانت صفة العلم معلومة لنا حقيقة كان علمنا بأنه عالم أيضا علما تاما بحقيقة هذه الصفة وإلا فلا ولا يعرف أحد حقيقة علم الله تعالى إلا من له مثل علمه، وليس ذلك إلا له، فلا يعرفه سواه، وإنما يعرفه غيره بالتشبيه بعلم نفسه، وعلم الله تعالى لا يشبهه علم الخلق البتة فلا يكون معرفته به معرفة تامة حقيقية أصلا، بل إبهامية تشبيهية. نعم؛ كلما ازداد العبد إحاطة بتفصيل المعلومات وعجائب الصنائع كان حظه من تلك الصنعة أوفر؛ لأن الثمرة تدل على المثمر، كما أنه كلما ازداد التلميذ إحاطة بتفاصيل علوم الأستاذ وتصانيفه كانت معرفته به أكمل واستعظامه له أتم، وهذا مراد المصنف من السياق، وإلى هذا يرجع تفاوت معرفة العارفين ويتطرق إليه تفاوتا لا يتناهى، (ومما يتفاوت بسببه الحب اختلاف الأسباب الخمسة التي ذكرناها للحب؛ فإن من يحب الله مثلا لكونه محسنا إليه منعما عليه ولم يحبه لذاته ضعفت محبته؛ إذ تتغير بتغير الإحسان، فلا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرضا والنعماء، وأما من يحبه لذاته ولأنه مستحق للحب بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته؛ فإنه لا يتفاوت حبه بتفاوت الإحسان إليه) ؛ فهذا السبب هو أقوى الأسباب، (فهذا وأمثاله هو سبب تفاوت الناس في المحبة، والتفاوت في المحبة هو السبب للتفاوت في سعادة الآخرة؛ لذلك قال الله تعالى: وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) .




الخدمات العلمية