الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون

                                                                                                                                                                                                                                        (164) أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات، أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها لقوم يعقلون أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما من الله على عبده من العقل، ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبره، ففي خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها، وما جعل الله فيها من الشمس والقمر والنجوم، وتنظيمها لمصالح العباد، وفي خلق الأرض مهادا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها والاعتبار، ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير، وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها، وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع، من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم وحاجاتهم. وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله واستحقاقه أن يفرد بالعبادة لانفراده بالخلق والتدبير، والقيام بشئون عباده.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي " اختلاف الليل والنهار " وهو تعاقبهما على الدوام، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر والبرد والتوسط، وفي الطول والقصر والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض، من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير وتسخير، تنبهر له [ ص: 120 ] العقول، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول، ما يدل ذلك على قدرة مصرفها، وعلمه وحكمته، ورحمته الواسعة، ولطفه الشامل، وتصريفه وتدبيره الذي تفرد به، وعظمته وعظمة ملكه وسلطانه، مما يوجب أن يؤله ويعبد ويفرد بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء وبذل الجهد في محابه ومراضيه.

                                                                                                                                                                                                                                        (و) في والفلك التي تجري في البحر وهي السفن والمراكب ونحوها، مما ألهم الله عباده صنعتها، وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها، ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال والبضائع التي هي من منافع الناس، وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم معايشهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فمن الذي ألهمهم صنعتها، وأقدرهم عليها، وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر، تجري فيه بإذنه وتسخيره، والرياح؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية النار والمعادن المعينة على حملها وحمل ما فيها من الأموال؟ فهل هذه الأمور حصلت اتفاقا أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز، الذي خرج من بطن أمه، لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة، وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد حكيم عليم، لا يعجزه شيء، ولا يمتنع عليه شيء؟ بل الأشياء قد دانت لربوبيته، واستكانت لعظمته، وخضعت لجبروته.

                                                                                                                                                                                                                                        وغاية العبد الضعيف أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب، التي بها وجدت هذه الأمور العظام، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له، والخوف والرجاء وجميع الطاعة والذل والتعظيم.

                                                                                                                                                                                                                                        وما أنزل الله من السماء من ماء وهو المطر النازل من السحاب، فأحيا به الأرض بعد موتها فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات، ما هو من ضرورات الخلائق، التي لا يعيشون بدونها.

                                                                                                                                                                                                                                        أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله، وأخرج به ما أخرج، ورحمته ولطفه بعباده، وقيامه بمصالحهم، وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟

                                                                                                                                                                                                                                        وبث فيها أي: في الأرض من كل دابة أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة، ما هو دليل على قدرته وعظمته ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع، فمنها: ما يأكلون من لحمه، ويشربون من دره، ومنها: ما يركبون، ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم، [ ص: 121 ] ومنها: ما يعتبر به، ومع أنه بث فيها من كل دابة، فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم، المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي " تصريف الرياح " باردة وحارة، وجنوبا وشمالا، وشرقا ودبورا، وبين ذلك، وتارة تثير السحاب، وتارة تؤلف بينه، وتارة تلقحه، وتارة تدره، وتارة تمزقه وتزيل ضرره، وتارة تكون رحمة، وتارة ترسل بالعذاب.

                                                                                                                                                                                                                                        فمن الذي صرفها هذا التصريف، وأودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات، وتصلح الأبدان والأشجار والحبوب والنوابت إلا العزيز الحكيم الرحيم اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع ومحبة وإنابة وعبادة؟.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير، فيسوقه الله إلى حيث شاء، فيحيي به البلاد والعباد، ويروي التلول والوهاد، وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته أمسكه عنهم، فينزله رحمة ولطفا، ويصرفه عناية وعطفا، فما أعظم سلطانه، وأغزر إحسانه، وألطف امتنانه.

                                                                                                                                                                                                                                        أليس من القبيح بالعباد أن يتمتعوا برزقه ويعيشوا ببره، وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره وعفوه وصفحه وعميم لطفه؟ فله الحمد أولا وآخرا، وباطنا وظاهرا.

                                                                                                                                                                                                                                        والحاصل، أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة، علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر، وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله، ولا رب سواه.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم قال تعالى: [ ص: 122 ]

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية