الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في تقديم الكفارات قبل الحنث

                                                                                                                                                                                        الأيمان أربعة:

                                                                                                                                                                                        أحدها: ما كان الحالف فيه على بر، كقوله: لا كلمت فلانا، أو لا دخلت هذه الدار.

                                                                                                                                                                                        والثاني: ما كان فيه على حنث، ولا يحنث إلا بموت نفسه، كقوله: لأدخلن هذه الدار، أو لأتزوجن. ولم يسم امرأة.

                                                                                                                                                                                        والثالث: ما كان يصح أن يحنث به في الحياة، كقوله: لأكلمن فلانا، أو لأتزوجن فلانة، أو لأركبن هذه الدابة.

                                                                                                                                                                                        والرابع: أن يحلف ليفعلن، ويضرب أجلا.

                                                                                                                                                                                        فأما من كان على بر; فاختلف فيه على أربعة أقوال: فقال ابن القاسم : اختلفنا في الإيلاء: هل تجزئ إن قدم الكفارة؟ فسألنا مالكا، فقال: بعد الحنث أعجب إلي، وإن فعل أجزأ .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد : يمضي، للحديث: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها; فليكفر" . [ ص: 1694 ]

                                                                                                                                                                                        وذكر أبو محمد عبد الوهاب ، عنه: أنه أجاز ذلك ابتداء .

                                                                                                                                                                                        وذكر ابن الجلاب عنه، أنه قال مرة: لا تجزئ. وقيل: يجوز إن كانت اليمين بالله، ولا تجوز إن كانت بطلاق أو عتق أو صدقة أو مشي ، يريد: ما لم يكن أخر طلقة، أو عبدا معينا.

                                                                                                                                                                                        قال مالك وابن القاسم فيمن آلى بعتق رقبة غير معينة، فأعتق قبل الحنث: ذلك يجزئه . ويجري على هذا الطلاق، وإن لم تكن طلقة بعينها، والصدقة.

                                                                                                                                                                                        وأجاز مالك لمن كان على حنث، فقال: لأفعلن، ولم يضرب أجلا: أن يقدم الكفارة .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن الماجشون في ثمانية أبي زيد ، فيمن حلف بالله ليتصدقن بدينار، فأراد أن يحنث نفسه: فيكفر، ولا يتصدق. قال: لا يجزئه حتى يحنث، واليمين عليه كما هي. قال: وهذا لا يتبين حنثه; حتى يموت.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا ضرب أجلا على ثلاثة أقوال:

                                                                                                                                                                                        فقال مالك في المدونة، فيمن قال: أنت طالق إن لم أتزوج عليك، فأراد أن [ ص: 1695 ] لا يتزوج عليها: يطلقها، ثم يرتجعها، ولا شيء عليه، قال: وإن قال: إن لم أتزوج عليك إلى شهر; جاز له أن يطأ; لأنه على بر، قال ابن القاسم : وإذا كان على بر، فليس له أن يحنث نفسه .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد : إذا قال: أنت طالق إن لم أتزوج عليك، وضرب أجلا، أو لم يضربه; له أن يحنث نفسه. وقال أيضا: إن حلف بالله، فذلك له. وفيما كفارته كفارة اليمين بالله، وقال محمد فيمن حلف ليكلمن فلانا، أو ليركبن هذه الدابة، ولم يضرب أجلا: أن حياتهما كالأجل، بخلاف من حلف على ما لا يحنث إلا بموت نفسه.

                                                                                                                                                                                        وعكس ذلك ابن كنانة في كتاب ابن حبيب ، وقال: إن حلف بعتق جاريته ليسافرن، أو ليأتين بلد كذا; فله أن يصيبها. لأنه لا يتبين حنثه إلا بموته وهي كالمدبرة وإن كان مما يقع عليه الحنث في حياته، مثل أن يحلف ليضربن جاريته، أو ينحر بعيره; فلا يطأ.

                                                                                                                                                                                        والقياس في جميع ذلك فيمن حلف لأفعل أو ليفعلن، ولم يضرب أجلا، أو ضرب أجلا وأراد أن يكفر قبل مضي الأجل; سواء.

                                                                                                                                                                                        والقول أن هذا على بر، وهذا على حنث لا يؤثر في تقديم الكفارة; لأن من حلف ليفعلن ولم يضرب أجلا، في حين إخراج الكفارة قبل الحنث تطوع بما لم يجب عليه. [ ص: 1696 ]

                                                                                                                                                                                        ولو بدا له بعد أن أراد أن يكفر أن ينتقل إلى أن يدخل الدار أو يكلم فلانا; لم يلزمه بالنية المتقدمة شيء.

                                                                                                                                                                                        فأما أن يقال إنه متطوع بالكفارة في جميع ذلك، فلأنها لم تجب، فلا تجزئ، أو أنها تجزئ. وقول مالك في المولي إنها تجزئ. يدخل فيه جميع الأيمان; من حلف لأفعلن، أو ليفعلن وضرب أجلا، أو لم يضرب أجلا أنها تجزئ، وهو أحسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر، وليأت الذي هو خير" ، وروي أيضا عنه، أنه قال: "فليأت الذي هو خير، وليكفر" . وكلا الروايتين تتضمن جواز تقديم الكفارة; لأن الواو لا توجب رتبة، فتركهم على ما يوجبه اللسان، يقدم الحالف أيهما أحب الكفارة أو الحنث.

                                                                                                                                                                                        ولو كان تقديم الكفارة لا يجوز; لأتى به، وقال: فليفعل، ثم ليكفر; ولأن موضعه البيان; فلا يجوز تأخيره حينئذ، ويتركهم على ما يقتضيه اللسان، والفاء في قوله: "فليفعل، وليكفر"; فإنما أبان ما يفعله بعد اليمين، [ ص: 1697 ] وهما شيئان; كفارة وحنث، كالقائل: إذا دخلت الدار; فكل واشرب.

                                                                                                                                                                                        فله أن يقدم بعد الدخول أحدهما على الآخر، وفي الترمذي : أن العباس سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته لعام قبل أن تحل، فأرخص له في ذلك .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية