الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ومذمتها لا يقدح في الرضا .

اعلم أن الضعيف قد يظن أن نهي رسول الله : صلى الله عليه وسلم : عن الخروج من بلد ظهر به الطاعون يدل على النهي عن الخروج من بلد ظهرت فيه المعاصي لأن كل واحد منهما فرار من قضاء الله تعالى وذلك محال ، بل العلة في النهي عن مفارقة البلد بعد ظهور الطاعون أنه لو فتح هذا الباب لارتحل عنه الأصحاء وبقي فيه المرضى مهملين لا متعهد لهم فيهلكون هزالا وضرا ولذلك شبهه رسول الله : صلى الله عليه وسلم : في بعض الأخبار بالفرار من الزحف ولو كان ذلك للفرار من القضاء لما أذن لمن قارب البلدة في الانصراف وقد ذكرنا حكم ذلك في كتاب التوكل وإذا عرف المعنى ظهر أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ليس فرارا من القضاء ، بل من القضاء الفرار مما لا بد من الفرار منه .

وكذلك مذمة المواضع التي تدعو إلى المعاصي ، والأسباب التي تدعو إليها لأجل التنفير عن المعصية ليست مذمومة .

فما زال السلف الصالح يعتادون ذلك حتى اتفق جماعة على ذم بغداد وإظهارهم ذلك وطلب الفرار منها فقال ابن المبارك قد طفت الشرق والغرب ، فما رأيت بلدا شرا من بغداد . قيل : وكيف قال : هو بلد تزدرى فيه نعمة الله ، وتستصغر فيه معصية الله .

ولما قدم خراسان قيل له كيف رأيت بغداد قال : ما رأيت بها إلا شرطيا غضبان ، أو تاجرا لهفان ، أو قارئا حيران ولا ينبغي أن تظن أن ذلك من الغيبة ؛ لأنه لم يتعرض لشخص بعينه حتى يستضر ذلك الشخص به ، وإنما قصد بذلك تحذير الناس وكان يخرج إلى مكة ، وقد كان مقامه ببغداد يرقب استعداد القافلة ستة عشر يوما ، فكان يتصدق بستة عشر دينارا لكل يوم دينار كفارة لمقامه .

التالي السابق


* (بيان أن الفرار من البلاد التي هي مظان المعاصي ومذمتها لا يقدح في الرضا) * (اعلم) أسعدك الله تعالى (أن الضعيف) القاصر النظر (قد يظن أن نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخروج من بلد ظهر به الطاعون) ، كما تقدم ذلك في الأخبار الواردة فيه (يدل على النهي عن الخروج من بلد ظهرت فيه المعاصي) وفشت (لأن كل واحد منهما فرار من قضاء الله) ، وهو مذموم منهي عنه (وذلك محال، بل العلة في النهي عن مفارقة البلد بعد ظهور الطاعون) منه (أنه لو فتح هذا الباب لارتحل عنه الأصحاء وبقي فيه المرضى مهملين لا متعهد لهم) في تمريضهم (فيهلكون هزالا وضرا) ولا يوجد من يجهزهم بعد موتهم [ ص: 670 ] (ولذلك شبهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض الأخبار بالفرار من الزحف) تشديدا في أمره وزجرا له في ذلك، واستدل به من ذهب إلى أن النهي فيه نهي تحريم، كما هو مذهب الشافعي، وقد تقدم ذلك في كتاب التوكل، وذكرنا هناك أن تلك العلة التي أبداها المصنف قد سبقه فيها الإمام أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار (ولو كان ذلك للفرار من القضاء) ، كما يفهم بظاهره (لما أذن لمن قارب البلدة في الانصراف) والرجوع (وقد ذكرنا حكم ذلك في كتاب التوكل) فارجع إليه (وإذا عرف المعنى ظهر أن الفرار من البلاد التي بها مظان المعاصي ليس فرارا من القضاء، بل من القضاء الفرار مما لا بد من الفرار منه) ويدل لذلك قول عمر -رضي الله عنه- لما أمر الناس بالانصراف عن الشام، وقد قال له بعضهم: أتفر من قضاء الله؟ فقال: نعم، نفر من قضاء الله إلى قضاء الله. (وكذلك مذمة المواضع التي تدعو إلى المعاصي، والأسباب التي تدعو إليها لأجل التنفير عن المعصية ليس مذموما) وقال الكمال الصوفي: ولا رخصة في الإقامة في بلد كثر فيه الفساد خوفا من الفرار من قضاء الله تعالى، فإنه أيضا إذا فر، فر بقضاء الله تعالى (فما زال السلف الصالح يعتادون ذلك حتى اتفق جماعة منهم على ذم) دار السلام (بغداد) وهي المدينة المشهورة بالعراق، بناها أبو جعفر المنصور، وفيها لغات أشهرها بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة ودالين مهملتين، ثم بغدان بالنون بدل الدال، ويروى بدال في آخره، ويروى بدال أولى مهملة، والثانية معجمة، وهذا هو المعروف عند المحدثين والكتاب، ويقال بعكس ذلك، ويقال: مغدان، بالميم بدل الباء والنون آخرا، وقد استوفيت ذلك في شرحي على القاموس، والاسم أعجمي، والعرب تختلف في ذلك، وزعم بعضهم أن تفسيره بستان العدل. وقيل: عطية الصنم، وهو على اللغة المشهورة الأولى التي ذكرناها، ولذا كره ابن المبارك هذه التسمية، وسماها المنصور دار السلام؛ لأن دجلة كان يقال لها وادي السلام، وكان بناها في سنة خمس وأربعين ومائة في الوقت الذي اختاره له توبحت المنجم، وكان قد جمع لبنائها مائة ألف رجل من جميع الأقاليم من أهل المعرفة بالبناء وإحكامه، ويقال: لا تعرف في أقطار الأرض مدينة مدورة سواها، وقد استوفى أخبار بنائها وما يتعلق بها الخطيب في أول تاريخه لها (وإظهارهم ذلك) ، أي: الذم (وطلب الفرار منها) قال صاحب القوت: وكذلك يحب ابن آدم ممن عامله الاعتراف والتواضع، وهو أيضا أحد المعاني في قوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا قيل: هو الاعتراف عقيب العمل السيئ؛ لأنه قد تقدم ذكره فكان الصالح بعده اعترافه، فأما من قلبت عليه هذه المعاني فجهل مواقيت الأمور، وغلبت عليه الغفلة، واستحوذت عليه الجهالة، فجعل ينظر إلى من فوقه في الدنيا فيغبطه على حاله، أو يتمنى مكانه، أو يدخله نظره إليه في استصغار نعمة الله عليه، ويزدري بيسير ما قسم به، ثم ينظر إلى من هو دونه في الزي من عموم المسلمين فيرضى بنقصان مقامه، ويجعل ذلك معذرة له وحجة وتأسيا به، فيغبطه عن اتساعه إلى القربات، أو لعلة، أو يداخله العجب والكبر حتى يتفضل عليه بحاله، أو ينظر إلى نفسه بإهماله لتقصير غيره عن مثل فعاله، فهذا أيضا يكتب جزوعا من الصبر، كفورا للنعمة بإضاعة الشكر؛ لأنه ليس بصابر ولا شاكر، وهذا وصف من أوصاف المنافقين، وهو مقام الهالكين، وروي عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحب المساكين والدنو منهم، وأن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، فذلك أجدر أن لا أزدري نعمة الله علي. وقد وصف هذا البلد الذي نحن فيه بمثل هذه المعاني، والله المستعان .

(فقال ابن المبارك) فيما حدثونا عنه: (فقد طفت الشرق والغرب، فما رأيت بلدا أشد من بغداد. قيل: وكيف هو) يا أبا عبد الرحمن؟ (قال: هو بلد تزدرى) ، أي: تحتقر (فيه نعمة الله، وتستصغر فيه معصية الله) ، أي: تعد صغيرة، قال: (و) وحدثونا عنه أنه (لما قدم خراسان قيل له) : يا أبا عبد الرحمن (كيف رأيت) الناس في (بغداد؟ فقال: ما رأيت بها إلا شرطيا غضبان، أو تاجرا لهفان، أو قارئا حيران) نقله صاحب القوت (ولا ينبغي أن تظن أن ذلك من الغيبة؛ لأنه لم يتعرض لشخص بعينه حتى يستضر ذلك الشخص به، وإنما قصد بذلك تحذير الناس) عن سكناها (وكان) ابن المبارك (يخرج إلى مكة، وقد كان مقامه ببغداد يرقب استعداد القافلة ستة عشر يوما، فكان يتصدق بستة عشر دينارا لكل يوم دينار كفارة لمقامه) ولفظ القوت: ويقال إنه كان يتصدق في كل يوم بدينار [ ص: 671 ] لأجل مقامه ببغداد إلى أن يخرج إلى مكة، فبلغني أنه كان يقيم مع الحاج ستة عشر يوما، فكان يتصدق بستة عشر دينارا كفارة لمقامه، ثم قال: وقد وصفها الشافعي -رضي الله عنه- أنها هي الدنيا، وروينا عنه أنه قال: الدنيا كلها بادية، وبغداد حاضرتها. وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يا يونس، رأيت بغداد؟ قلت: لا. قال: ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس. اهـ .

وقال الخطيب في تاريخه: أخبرنا أبو عبد الرحمن إسماعيل بن أحمد الضرير، أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي بنيسابور، سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت عبد الله بن موسى الطلحي يقول: سمعت أحمد بن العباس يقول: خرجت من بغداد، فاستقبلني رجل عليه أثر العبادة، فقال لي: من أين خرجت؟ فقلت: من بغداد، هربت منها لما رأيت فيها من الفساد، خفت أن يخسف بأهلها. فقال: ارجع، ولا تخف، فإن فيها قبور أربعة من الأولياء هم حصن من جميع البلايا. قلت: من هم؟ قال: الإمام أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي، وبشر الحافي، ومنصور بن عمار. اهـ .




الخدمات العلمية