الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فيقال: هذا الكلام يقتضي أنه ليس بينه وبين أئمة الكلابية والأشعرية وسائر الصفاتية خلاف معنوي، فأما نقله عنهم أنهم أثبتوا أكثر من قديم واحد، وأنهم أثبتوا ذاتا قديمة قائمة بذات الله تعالى، فيقال له: أما الكلابية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه، كأبي الحسن التميمي، وأبي سليمان الخطابي، وغيرهما من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة، فلا يقولون: العلم قديم، ولكن يقولون: الرب بعلمه قديم، ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة، فلا يقول: إن الذات [ ص: 39 ] والصفات قديمان ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ "الذوات" فإن الذات إذا أطلقت يفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات، ولهذا يفرق بين الذات والصفات.

وأصل "الذات" تأنيث "ذو" ومعناه الصاحبة، أي صاحبة الصفة، فهم لا يسمون الصفات ذوات بهذا الاعتبار، وإنما يسمونها معاني.

وإذا قال بعضهم - كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما - إن العلة ذات من الذوات موجودة، لا يصح أن يوجب الحكم إلا لذات موجودة، فمرادهم بذلك أنها شيء موجود، كما بينوه بقولهم إن العلة لا يجوز أن تكون معدومة ولا حكمها معدوما، مع أن هذا ينازعهم فيه نفاة الحال.

لكن المقصود أن مرادهم بهذا اللفظ ليس هو أنها ذات قائمة بنفسها، بل معنى من المعاني، وأما نقلك عنهم أنهم يثبتون ذاتا نوجب أن يكون عالما ولولاها لما كان عالما، فهذا أولا ليس هو قول أئمتهم ولا جمهورهم، بل هذا قول من يثبت الحال منهم، وأما جمهورهم فعندهم العلم هو نفس كونه عالما، لا يثبتون هناك ذاتا أوجبت كونه عالما.

وأنت قد اعترفت بأن له علما وقدرة وحياة، بمعنى أنه عالم قادر [ ص: 40 ] حي، لا بمعنى أن له ذاتا بها كان عالما، فقولك موافق لقول جمهورهم. ثم مثبتة الحال تقول: قام به معنى هو العلم أوجب كونه عالما. وأما نقلك عنهم أنهم يقولون: لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي، فليس الأمر على ما يفهم من هذه الشناعة، فإنهم متفقون على أنه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما، وإنما نقلت قولهم بلفظ "الذات" ولفظ "الذات" مجمل، فإن أردت أنهم يقولون: لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بهذه الصفات، فإنه من المعلوم أنه لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بالعلم والقدرة لكانت عالمة قادرة، وإن أردت أنهم يقولون: لو لم يكن إلا الذات المجردة عن الصفات، فعندهم أن وجود ذات الرب مجردة عن هذه الصفات ممتنع، فهو كما تقول أنت: لو قدر أنه ليس في الوجود إلا هو، مع كونه غير عالم ولا قادر، ومعلوم أنه إذا قدر هذا التقدير الممتنع لذاته لزمه حكم ممتنع.

ويقال له: أنت قد قلت إن الله عندكم قادر حي لذاته.

قلت: ويعني بذلك أن ذاته متميزة من سائر الذوات تميزا يجب معه أن يعلم الأشياء كلها ويقدر على ما لا نهاية له. فيقال له: قولكم: إن ذاته متميزة تميزا يجب معه أن يعلم ويقدر. هل نفس أن يعلم ويقدر هو الذات المتميزة، أو نفس أن يعلم الذات ويقدر ليس هو نفس الذات؟

التالي السابق


الخدمات العلمية