الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الثالث : في الصدق وفضيلته وحقيقته .

فضيلة الصدق .

قال الله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الصدق يهدي إلى البر والبر " يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا .

التالي السابق


(الباب الثالث: في الصدق وفضيلته وحقيقته )

ويضاف إليه الانفصال والاتصال، والتحقيق والتفريد؛ لأنهن من علاماته

* (فضيلة الصدق ) * من الآيات والأخبار، فمن ذلك (قال الله تعالى: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) فأثنى عليهم بالصدق، ووصفهم به، ولولا أنه من فضائل الأعمال ما وصفهم بذلك، وكذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين .

وقال أحمد بن حضرويه: من أراد أن يكون الله معه فيلزم الصدق؛ فإن الله تعالى قال: وكونوا مع الصادقين .

(وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدق يهدي إلى البر" ) أي: يوصل صاحبه إليه، والبر بالكسر اسم يجمع الخير كله، وقيل: هو التوسع في الخير، وقيل: اكتساب الحسنات واجتناب السيئات .

(و ) إن (البر يهدي إلى الجنة ) يعني: إن الصدق الذي هو بر يدعو إلى ما يكون برا مثله، وذلك يدعو إلى دخول الجنة، فهو سبب لدخولها، ومصداقه قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم .

(وإن الرجل ) ذكر الرجل وصف طردي، والمراد الإنسان المؤمن (ليصدق ) أي: يلازم الصدق (حتى يكتب عند الله صديقا ) أي: يتكرر منه الصدق ويدوم [ ص: 68 ] عليه قولا وفعلا واعتقادا حتى يستحق اسم المبالغة فيه، ويشتهر بذلك عند الملأ الأعلى، فالمراد بالكتابة الكتابة في اللوح، أو في صحف الملائكة .

(وإن الكذب ) الذي هو مقابل الصدق (يهدي ) أي: يوصل (إلى الفجور ) الذي هو شق ستر الديانة، والميل إلى الفساد، والانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع لكل شر (وإن الفجور يهدي إلى النار ) أي: إلى ما يكون سببا لدخولها، وذلك داع لدخولها (وإن الرجل ليكذب ) أي: يكثر الكذب (حتى يكتب عند الله كذابا ) أي: يحكم له بذلك، ويستحق الوصف .

فمنزلة الصديقين وثوابهم في الأول والكذابين وعقابهم في الثاني، فالمراد إظهاره لخلقه بالكتابة فيما ذكر؛ ليشتهر في الملأ الأعلى، ويلقى في قلوب أهل الأرض، ويوضع على ألسنتهم، كما يوضع القبول والبغضاء في الأرض، ذكره العلائي وغيره، وتبعهم الحافظ في الفتح .

وقال بعضهم: المضارعان وهما يصدق ويكذب للاستمرار، ومن ثم كان الكذب أشد الأشياء ضررا والصدق أشدها نفعا؛ ولهذا علت رتبته على رتبة الإيمان؛ لأنه إيمان وزيادة .

وقال النووي: فيه حث على تحري الصدق والاعتناء به، وتحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه أكثر منه، وعرف به .

وقال الراغب: الصدق أحد أركان بقاء العالم حتى لو توهم مرتفعا لما صح نظامه وبقاؤه، وهو أصل المحمودات، وركن النبوات، ونتيجة التقوى، ولولاه لبطلت أحكام الشرائع، والاتصاف بالكذب انسلاخ من الإنسانية لخصوصية الإنسان بالنطق، ومن عرف بالكذب لم يعتمد نطقه، وإذا لم يعتمد لم ينتفع، وإذا لم ينتفع صار هو والبهيمة سواء، بل يكون شرا من البهيمة؛ فإنها وإن لم ينتفع بلسانها لا تضر، والكاذب يضر ولا ينفع. اهـ .

والحديث قد تقدم أنه اتفق عليه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك، فوهم، وقال ابن أبي الدنيا في الصمت: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا".

وقد روي ذلك من حديثه بلفظ آخر: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".

رواه كذلك أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، ومسلم ، والترمذي ، وابن حبان . وقال أبو داود والطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة ، عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".

ورواه القشيري في الرسالة من طريقه، وقد روي نحو ذلك من قول ابن مسعود ، قال ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، أخبرني عمرو بن مرة، سمعت مرة الهمداني قال: كان عبد الله يقول: "عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى الجنة، وما يزال العبد يصدق حتى يكتب عند الله صديقا، ويثبت البر في قلبه، فلا يكون للفجور موضع إبرة يستقر فيه".

وفي الباب عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- رفعه: "عليكم بالصدق فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة" الحديث، هكذا رواه الطيالسي وأحمد والحميدي والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه ، وأبو يعلى والشاشي والدارقطني في الأفراد، وابن حبان والحاكم والبيهقي والضياء .

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة ، عن يزيد بن حميد، سمعت سليم بن عامر يحدث عن واسط بن إسماعيل أنه سمع أبا بكر يخطب بعدما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنة، فقال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام أول مقامي هذا، ثم بكى أبو بكر، ثم قال: "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار" وهكذا رواه مختصرا .

وقد رواه الطبراني مثله من حديث معاوية ، وروى الخطيب وابن النجار من حديث أبي بكر بلفظ: "فإنه باب من أبواب الجنة، وباب من أبواب النار" والباقي سواء .




الخدمات العلمية