الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فيقال لأبي الحسين: إذا كان مذهبك ومذهب نفاة الأحوال أن الواحد منا عالم لا لمعنى، والباري عالم لا لمعنى، فقد صحت حجة الصفاتية، وتبين أن إثبات الصفة لأحد العالمين دون الآخر باطل، وأما ما ذكرته من قول أبي هاشم فهو قول مثبتة الحال، وحينئذ فيخاطبه مثبتة الحال من الصفاتية، كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ومن تبعهما، فيقولون: كونه علم مع وجوب أن يعلم لا يمنع استلزام ذلك علما به صار عالما، بل الحال الواجبة تستلزم علة واجبة، والحال الجائزة تستلزم علة جائزة، وإنما الفرق بينهما أن الواحد منا علم مع جواز أن لا يكون له علم وأن لا يكون عالما، والباري علم مع وجوب أن يكون له علم وأن يكون عالما، فالفرق بينهما من جهة وجوب الصفة والحال، وجواز الصفة والحال، أما ثبوت الصفة والحال في أحدهما، وثبوت الحال دون الصفة في الآخر، ففرق فاسد، كفرق النفاة بين إثبات الصفة لأحدهما دون الآخر، وهذا كله مما تبين لمن علم وأنصف أنه لا يمكن أبا الحسين وأمثاله من المعتزلة أن يذكروا فرقا معقولا بين قولهم وقول أئمة الصفاتية، وإذا قدر أنهم يذكرون فرقا فحجتهم على [ ص: 46 ] النفي في غاية الفساد والتناقض، فهم يتناقضون لا محالة في نفس المذهب أو في حجته، ونقلهم عن منازعيهم فيه من التحريف والمجازفة والشناعة بغير حق ما يتبين لمن تأمله، مثل تشنيعهم على أهل الإثبات بأنكم تقولون بتعدد القديم، والقديم لفظ مجمل يوهمون به بعض الناس أنهم يقولون بتعدد الآلهة، لا سيما مع قول أكثر شيوخهم كالجبائي ومن قبله: إن أخص وصف الرب هو القدم، وإن الاشتراك فيه يوجب التماثل، فلو شاركت الصفة الموصوف في القدم لكانت مثله. وهذا وإن كان في غاية الفساد، فإن خصائص الرب التي لا يوصف بها غيره كثيرة، مثل كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم، القائم بنفسه، القديم الواجب الوجود، المقيم لكل ما سواه، ونحو ذلك من الخصائص التي لا تشركه فيها صفة ولا غيرها.

فيقال: القدم الذي هو من خصائصه هو قدم القائم بنفسه. وكذلك وجوبه الذي هو وجوب وجود القائم بنفسه ونحو ذلك.

وأما الصفات التي لا تقوم إلا به، فإن قيل بقدمها أو وجوبها، فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف، وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال، وأما ذات مجردة عن هذه الصفات - أو صفات مجردة عنها - فلا وجود لها، فضلا عن أن تكون واجبة بنفسها، أو قديمة، فقولهم - مع فساده - [ ص: 47 ] أوجب أن صار كثير من الناس يحترزون عن إطلاق لفظ القديم على الصفة، وكذلك لفظ الواجب بنفسه، أو يحترزون من إطلاق لفظ القديم على الموصوف والصفة جميعا، وإن كانوا يطلقون ذلك على أحدهما عند الانفراد، وهذه طريقة ابن كلاب وأكثر أئمة متكلمي الصفاتية، وعلى هذا جرى كلام أبي الحسن التميمي والخطابي وغيرهما ممن سلك هذا المسلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية