الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل على سبيل التقريع لهم والتوبيخ لمن ما في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله سبحانه وتعالى : قل لله تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع، فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن كما قال الإمام في موضع يكون الجواب كذلك، قيل : وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى : (قل لمن) إلخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله وقوله عز وجل : قل لله معناه إنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره، وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا إشارة إلى وجه الربط، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار والمجرور خبر مبتدإ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه، كتب على نفسه الرحمة جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق إثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين، مسوقة لبيان أنه تعالى رءوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم التوبة، وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، ومعنى (كتب الرحمة على نفسه) جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء وقيل : هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش "أن رحمتي سبقت غضبي"، وفي رواية ابن مردويه أن الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه قبل أن يخلق السموات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه "رحمتي سبقت غضبي" إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير

                                                                                                                                                                                                                                      وفي شرح مسلم للإمام النووي قال العلماء : غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته [ ص: 105 ] الثواب للمطيع، والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة، وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا، وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها، قالوا : والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه. انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا، وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق وكذا يتصور الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث، وقد يراد بالرحمة ما يرحم به، وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضا، وعليه يخرج ما أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة بها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة "

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو قال : " إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة "، والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام، وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر، وقوله سبحانه :ليجمعنكم إلى يوم القيامة جواب القسم محذوف، وقع على ما قال أبو البقاء كتب موقعه، والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وأغفالهم النظر، وقيل : بياني كأنه قيل : وما تلك الرحمة، فقيل : إنه تعالى (ليجمعنكم) إلخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج، وارتفع الضبط وكثر الخبط وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض المحققين أيضا : إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة، وقيل : صلاحية ما في الآية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي، وقيل : إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من (الرحمة) بدل البعض، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد. نعم لم يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك. والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم إلخ على أن البعث بمعنى الإرسال وهو مما يتعدى بـ (إلى) ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين. واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها؛ وقيل : هو متعلق بالفعل المذكور، والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه، وقيل : إنه متعلق بالفعل [ ص: 106 ] و (إلى) بمعنى في كما في قوله :

                                                                                                                                                                                                                                      لا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطلي به القار أجرب

                                                                                                                                                                                                                                      ومنع بعضهم مجيء (إلى) بمعنى (في) في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد إلى الكوفة بمعنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافا أو مبغضا أو مكروها، وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل : إن استعمال إلى بمعنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر، وارتكاب التضمين خلاف الأصل، وارتكاب القول بأن إلى بمعنى في وإن لم يكن مطردا أهون منه، وقيل : إنها بمعنى اللام، وقيل : زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظاهر من السياق، وقيل : عام لهم وللمؤمنين بعد أن كان خاصا بالكافرين أي ليجمعنكم أيها الناس إلى يوم القيامة لا ريب فيه أي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعا لا ريب فيه، وجوز أن تكون تأكيدا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى : ذلك الكتاب لا ريب فيه

                                                                                                                                                                                                                                      الذين خسروا أنفسهم بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة، وموضع الموصول قيل : نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا ، كيف قطع فيه (الذي) مع عدم صحة اتباعه نعتا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت، والضمير ينعت، وقيل : هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضا، ولا اختصاص للقطع بالنعت ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبا بفعل مقدر أو خبرا لمبتدإ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع، واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك، وقيل : هو مبتدأ خبره فهم لا يؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      21

                                                                                                                                                                                                                                      - والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس، والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي الكشاف فإن قلت : كيف يكون عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس، قلت : معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه، وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على لا ريب فيه فيحتاج الفصل إلى تكليف تقدير سؤال كأنه قيل : فلم يرتاب الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الإيمان، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية