الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثالث والثمانون والمائة بين قاعدة الذمة وبين قاعدة أهلية المعاملة )

اعلم أن الذمة قد أشكلت معرفتها على كثير من الفقهاء وجماعة يعتقدون أنها أهلية المعاملة فإذا [ ص: 227 ] قلنا زيد له ذمة معناه أنه أهل لأن يعامل وهما حقيقتان متباينتان بمعنى أنهما متغايرتان وتحقيق التغاير بينهما أن كل واحدة من هاتين الحقيقتين أعم من الأخرى من وجه وأخص من وجه فإن التصرف يوجد بدون الذمة ، والذمة توجد بدون أهلية التصرف ويجتمعان معا كالحيوان والأبيض يوجد الحيوان ولا أبيض كالأسودان والأبيض ولا حيوان كالجير والثلج ويجتمعان معا كالصقالبة والطيور البيض ، وهذا هو ضابط الأعم والأخص من وجه فالصبيان عندنا المميزون يصح بيعهم وشراؤهم ويقف اللزوم على إجازة الولي ، وقال الشافعي رحمه الله لا ينعقد أصلا وإن أذن له الولي وجوزه أبو حنيفة بإذن الولي فإن عقد بغير إذن الولي وقف على إجازته ، وقال ابن حنبل إن عقده بإذن صح وإلا فلا واتفق الجميع على عدم الذمة في حقه فهذا القسم [ ص: 228 ] حصل فيه أهلية التصرف عندنا ، وعند أبي حنيفة وابن حنبل من غير ذمة له عند الجميع وتوجد الذمة بدون أهلية التصرف كالعبيد فإنهم محجور عليهم لحق السادات .

وإن قلنا إنهم يملكون فلا يجوز لهم التصرف إلا بإذن السادات سدا لذريعة إفساد ما لهم وحق السادات متعلق به ، ولو جنوا جناية ولم يقع الحديث فيها ولا الحكم كانت متعلقة بذمته إذا عتق طولب بها بخلاف الصبي إذا بلغ لا يطالب بما تقرر في ذمته قبل البلوغ لكن بما تقدم سببه قبل البلوغ ويطالب به الآن .

وأما العبد يطالب بما تعلق بذمته قبل العتق ، فيكون قد تقدم في حق العبد السبب والملزوم وفي حق الصبي السبب دون اللزوم ، وكذلك إذا تزوج بغير إذن سيده وفسخ نكاحه بقي الصداق في ذمته يطالب به بعد العتق فاللزوم سابق والمطالبة متأخرة [ ص: 229 ] وكلاهما متأخر في حق الصبي لعدم الذمة في حق الصبي ووجودها في حق العبد وتوجد أهلية التصرف والذمة معا في حق الحر البالغ الرشيد فإن له أهلية التصرف وله ذمة فقد ظهر أن الذمة وأهلية التصرف كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فهما متغايران ويؤكد ذلك أن المفلس محجور عليه في ماله الذي حازه الحاكم ليس له أن يتصرف فيه وله أهلية التصرف في مال يستدينه من قوم آخرين أو يرثه أو يوهب له فقد اختصت أهلية التصرف ببعض الأموال ، وأما ذمته فثابتة بالنسبة إلى الجميع في المالين فقد صارت الذمة في هذه الصور أعم من أهلية التصرف وأهلية التصرف أخص من الذمة لحصولها في البعض من الأموال دون البعض [ ص: 230 ]

فإن قلت الحكم على الشيء بالرد والقبول فرع عن كونه معقولا ومعنى الذمة تعبد غير معقول فكيف يقضى عليها بالعموم أو الخصوص أو غيرهما فلا بد من بيان الحقيقتين وإلا فلا يتحصل من هذه العمومات والخصوصات مقصود قلت العبارة الكاشفة عن الذمة أنها معنى [ ص: 231 ] شرعي مقدر في المكلف قابل للالتزام واللزوم ، وهذا المعنى جعله الشرع مسببا على أشياء خاصة منها البلوغ ومنها الرشد فمن بلغ سفيها لا ذمة له ، ومنها ترك الحجر كما تقدم في المفلس فمن اجتمعت له هذه الشروط رتب الشرع عليها تقدير معنى فيه يقبل إلزامه أرش الجنايات وأجر الإجارات وأثمان المعاملات ونحو ذلك من التصرفات ويقبل التزامه إذا التزم أشياء اختيارا من قبل نفسه لزمه ، وإذا فقد شرط من هذه الشروط لم يقدر الشرع هذا المعنى القابل للإلزام والالتزام ، وهذا المعنى المقدر هو الذي تقدر فيه الأجناس المسلم فيها مستقرة حتى يصح مقابلتها بالأعواض المقبوضة ناجزا في ثمنها ، وفيه تقدر أثمان البياعات بثمن إلى آجال بعيدة أو قريبة وصدقات الأنكحة والديون في الحوالات والحقوق في الضمانات وغير [ ص: 232 ] ذلك ولا جرم من لا يكون هذا المعنى مقدرا في حقه لا يصح في حقه شيء من هذه الأمور فلا ينعقد في حقه سلم ولا ثمن إلى أجل ولا حوالة ولا حمالة ولا شيء من ذلك ، فهذا هو حقيقة الذمة وبسطها والعبارة الكاشفة عنها والسبب الشرعي الذي يقدر الشرع عنده المعنى الذي هو الذمة ، وأما أهلية التصرف فحقيقتها عندنا قبول يقدره صاحب الشرع في المحل وسبب هذا القبول المقدر التمييز عندنا ، وعند الشافعي التميز مع التكليف .

وهذا القبول الذي هو أهلية التصرف لا يشترط فيه عندنا الإباحة فإن الفضولي عندنا له أهلية التصرف وتصرفه حرام [ ص: 233 ] وللمالك عندنا إمضاء ذلك التصرف من غير تجديد عقد آخر ينفذ ذلك التصرف فدل ذلك على أن العقد المتقدم قابل للاعتبار وإنما تعلق به حق آدمي كتصرف العبد بغير إذن سيده ، ثم إن أهلية التصرف قد توجد في النكاح الذي لا يثبت في الذمم كتصرف الأولياء في الموليات له وتوجد في الأحكام فيما لا يثبت في الذمم ، وأنواع التصرفات كثير فيما لا يثبت في الذمة فأهلية التصرفات أهلية وقبول خاص كما تقدم ليس فيه إلزام ولا التزام والذمة معنى مقدر في المحل قابل لهما فهذا هو نفس الفرق بينهما مع أن كليهما معنى مقدر في المحل ووقع الفرق أيضا من حيث السبب فإن الذمة يشترط فيها التكليف من غير خلاف أعلمه [ ص: 234 ] بخلاف أهلية التصرف فقد وضح الفرق بينهما فإن قلت هل هما من باب خطاب الوضع الذي هو وضع الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية أو من باب خطاب التكليف الذي هو الوجوب [ ص: 235 ] والتحريم والندب والكراهة والإباحة كما ، قلته في الملك إنه من باب خطاب التكليف وأنه يرجع إلى الإذن والإباحة عند أسباب خاصة وإباحة خاصة كما تقدم بيانه في ذلك .

قلت الذي يظهر لي وأجزم به أن الذمة وأهلية التصرف من باب خطاب الوضع دون خطاب التكليف وأنهما يرجعان إلى التقادير الشرعية ، والتقادير الشرعية هي إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود ، وقد تقدم بسطها في الفرق بين الخطابين والذمة وأهلية التصرف من القسم الثاني وهو إعطاء المعدوم حكم الموجود فإنه لا شيء في المحل من الصفات الموجودة كالألوان والطعوم ونحوهما من الصفات الموجودة وإنما هو نسبة خاصة يقدرها صاحب الشرع عند سببها موجودة وهي لا وجود لها ، بل هذا المعنى من التقدير فقط كما يقدر الملك في العتق وهو معدوم [ ص: 236 ] وكذلك هذه التقادير تذهب عند ذهاب أسبابها وتثبت عند تثبيت أسبابها كمتعلقات الخطاب في التحريم والإباحة وغيرهما والتعلقات أمور عدمية تقدر في المحال موجودة فهذا هو تلخيص معنى الذمة وأهلية التصرف والفرق بينهما فتأمله .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثالث والثمانون والمائة بين قاعدة الذمة وقاعدة أهلية المعاملة إلى قوله ، وهذا هو ضابط الأعم والأخص من وجه ) قلت ما قاله في ذلك صحيح وما قاله بعد من حكاية أقوال لا كلام فيه وما قاله من أن الصبي لا ذمة له فيه نظر فإن كانت الذمة كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق والتزامها شرعا فالصبي لا ذمة له وإن كانت الذمة كونه قابلا للزوم الحقوق دون التزامها فالصبي له ذمة للزوم أروش الجنايات وقيم المتلفات له والله أعلم [ ص: 227 - 230 ]

قال ( فإن قلت الحكم على الشيء بالرد والقبول فرع عن كونه معقولا ومعنى الذمة غير تعبد معقول إلى قوله فهذا هو حقيقة الذمة وبسطها والعبارة الكاشفة عنها والسبب الشرعي الذي يقدر الشرع عنده ذلك المعنى الذي هو الذمة ) قلت الأولى عندي أن يقال إن الذمة قبول الإنسان شرعا للزوم الحقوق دون التزامها وعلى هذا تكون للصبي ذمة أو يقال قبولي الإنسان شرعا للزوم الحقوق والتزامها فعلى هذا لا تكون للصبي ذمة [ ص: 231 - 232 ]

قال ( وأما أهلية التصرف إلى قوله فهذا هو نفس الفرق بينهما مع أن كليهما معنى مقدر في المحل ) قلت ما قاله في ذلك ظاهر [ ص: 233 ] قال ( ووقع الفرق أيضا من حيث السبب فإن الذمة يشترط فيها التكليف من غير خلاف أعلمه [ ص: 234 ] بخلاف أهلية التصرف فقد وضع الفرق بينهما ) قلت إذا صح الاتفاق على اشتراط التكليف في الذمة فلا ذمة للصبي ويتعين حد الذمة أو رسمها بأنها قبول الإنسان شرعا للزوم الحقوق دون التزامها والله أعلم .

قال ( فإن قلت هل هما من باب خطاب الوضع ) قلت ما قاله من أنهما من خطاب الوضع هو الظاهر ، وكذلك الملك عندي بخلاف قوله فيه وما قاله من أنها من التقادير الشرعية فيه نظر ، وكذلك ما قاله من أن النسب أمور سلبية فيه نظر ، وقوله كما تقدر الملك في العتق وهو معدوم إن كان يشير بذلك إلى العتق عن الغير فقد تقدم أن الصحيح خلاف ذلك والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 235 - 236 ] الفرق الثالث والثمانون والمائة بين قاعدة الذمة وبين قاعدة أهلية المعاملة )

وهو أنهما وإن اشتركا في جهتين جهة كونهما تعلقا ونسبة خاصة في المحل وجهة كونهما من باب خطاب الوضع لا من باب خطاب التكليف من حيث إن كلا منهما سبب في شيء كما سيفتح لا من حيث إنهما تعلق ونسبة خاصة والتعلقات أمور عدمية فيقدرها صاحب الشرع في المحل عند سببها موجودة وتكون من قبيل التقادير الشرعية التي هي إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود خلافا للأصل لكنهما يفترقان من جهتين أيضا

( إحداهما ) أن الذمة أما كون الإنسان قابلا للزوم الحقوق والتزامها شرعا ، فيكون الصبي لازمة له ، وأما كونه قابلا شرعا للزوم الحقوق دون التزامها ، فيكون الصبي له ذمة للزوم أروش الجنايات وقيم المتلفات وأهلية المعاملة والتصرفات قبول خاص ليس فيه إلزام ولا التزام

( والجهة الثانية ) أن الذمة قال الأصل يشترط فيها التكليف من غير خلاف أعلمه بخلاف أهلية التصرف فاشترط الشافعي فيهما أيضا التمييز والتكليف ومالك وأبو حنيفة التمييز فقط وابن حنبل التمييز مع إذن الولي فلا يصح عنده تصرفه بدون إذنه .

وقال ابن الشاط إذا صح الاتفاق على اشتراط التكليف في الذمة فلا ذمة للصبي ويتعين حد الذمة أو رسمها بأنها قبول الإنسان شرعا للزوم الحقوق دون التزامها ا هـ . أي حتى تكون للصبي ذمة للزوم أروش الجنايات وقيم المتلفات له كما علمت فبين الذمة وأهلية التصرف عموم وخصوص وجهي يجتمعان معا في حق الحر البالغ الرشيد فإن له أهلية التصرف وله ذمة كما لا يخفى وتنفرد الذمة عن أهلية التصرف في العبيد فإنهم محجور عليهم لحق السادات سدا لذريعة إفساد ما لهم وحق السادات متعلق به ، ولو جنى العبد جناية ولم يقع الحديث فيها ولا الحكم كانت متعلقة بذمته إذا عتق طولب بها ، فيكون قد تقدم في حقه السبب واللزوم وتأخرت المطالبة .

وإذا تزوج بغير إذن سيده وفسخ نكاحه بقي الصداق في ذمته يطالب به بعد العتق فاللزوم سابق والمطالبة متأخرة في حقه وتنفرد أهلية التصرف عن الذمة في الصبيان المميزين فإن في الصبي المميز أهلية التصرف عندنا ، وعند أبي حنيفة وابن حنبل فقط من غير ذمة له عند الجميع بناء على صحة الاتفاق على اشتراط التكليف في الذمة كما تقدم ، قلت ولا ينافي هذا قول السيد الجرجاني في تعريفاته الذمة لغة العهد ؛ لأن نقضه يوجب الذم ومنهم من جعلها وصفا فعرفها بأنها وصف يصير الشخص به أهلا للإيجاب له وعليه ومنهم من جعلها ذاتا فعرفها بأنها نفس لها عهد فإن الإنسان يولد وله ذمة صالحة للوجوب له وعليه عند جميع الفقهاء بخلاف سائر الحيوانات ا هـ . بلفظ كما أنه لا منافاة بين قوله فإن الإنسان يولد وله ذمة .

وقوله صالحة للوجوب له وعليه ؛ لأن مراده أنها من الطبائع الملازمة للإنسان كالناطقية بمعنى مبدئية النطق والإدراك وإن منع من تحققها في بعض أفراده مانع كما يشهد لذلك قوله بخلاف سائر الحيوانات فتأمل بإمعان وبالجملة فسبب القبول الذي هو الذمة عند الجميع التمييز مع التكليف وسبب القبول الذي هو أهلية التصرف عندنا ، وعند أبي حنيفة التمييز دون الإجازة والتكليف ودون الإباحة أيضا عندنا فإن الفضولي عندنا له أهلية التصرف وتصرفه حرام وللمالك عندنا إمضاء ذلك التصرف من غير تجديد عقد آخر ينفذ ذلك التصرف فدل على أن العقد المتقدم قابل للاعتبار وإنما تعلق به حق آدمي كتصرف العبد بغير إذن سيده والصبي المميز بغير إذن الولي فإن تصرفه صحيح يتوقف لزومه على إجازة السيد والولي عندنا ، وعند أبي حنيفة ، وعند ابن حنبل التمييز مع الإجازة دون التكليف فإنه عقد الصبي المميز بإذن الولي صح وإلا فلا ، وعند الشافعي التمييز مع التكليف فلا ينعقد عقد الصبي المميز أصلا وإن أذن له الولي والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية