الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وباب من البديع يسمى " الاستطراد " . فمن ذلك ما كتب إلي الحسن بن [ ص: 104 ] عبد الله قال : أنشدني أبو بكر بن دريد ، قال : أنشدنا أبو حاتم ، عن أبي عبيدة ، لحسان بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - :


إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام     ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
ونجا برأس طمرة ولجام



وكقول السموأل :


وإنا لقوم لا نرى القتل سبة     إذا ما رأته عامر وسلول



وكقول الآخر :


خليلي من كعب أعينا أخاكما     على دهره ، إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة ، إنه     مخافة أن يرجى نداه حزين



وكقول الآخر :


فما ذر قرن الشمس حتى كأننا     من العي نحكي أحمد بن هشام



وكقول زهير :


إن البخيل ملوم حيث كان ولـ     ـكن الجواد على علاته هرم



وفيما كتب إلي الحسن بن عبد الله ، قال : أخبرني محمد بن يحيى قال : [ ص: 105 ] حدثني محمد بن علي الأنباري ، قال : سمعت البحتري يقول : أنشدني أبو تمام لنفسه :


وسابح هطل التعداء هتان     على الجراء أمين غير خوان
أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه     فخل عينيك في ريان ظمآن
ولو تراه مشيحا والحصى فلق     بين السنابك من مثنى ووحدان
أيقنت - إن لم تثبت - أن حافره     من صخر تدمر أو من وجه عثمان



وقال لي : ما هذا من الشعر ؟ قلت : لا أدري . قال : هذا المستطرد ، أو قال : الاستطراد . قلت : وما معنى ذلك ؟ قال : يري أنه يصف الفرس ، ويريد هجاء عثمان .

وقال البحتري :


ما إن يعاف قذى ولو أوردته     يوما خلائق حمدويه الأحول



قال : فقيل للبحتري : إنك أخذت هذا من أبي تمام ، فقال : ما يعاب علي أن آخذ منه وأتبعه فيما يقول .

ومن هذا الباب قول أبي تمام :


صب الفراق علينا صب من كثب     عليه إسحاق يوم الروع منتقما



[ ص: 106 ] ومنه قول السري الرفاء :


نزع الوشاة لنا بسهم قطيعة     يرمى بسهم الحين من يرمى به
ليت الزمان أصاب حب قلوبهم     بقنا ابن عبد الله أو بحرابه



ونظيره من القرآن : أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ..

كأنه كان المراد أن يجري بالقول الأول إلى الإخبار عن أن كل شيء يسجد لله - عز وجل - ، وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص .

* * *

ومن البديع عندهم : " التكرار " كقول الشاعر :


هلا سألت جموع كنـ     ـدة يوم ولوا أين أينا ؟



وكقول الآخر :


وكانت فزارة تصلى بنا     فأولى فزارة أولى فزارا



ونظيره من القرآن كثير ، كقوله تعالى : فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا .

وكالتكرار في قوله : قل يا أيها الكافرون . وهذا فيه معنى زائد على التكرار ؛ لأنه يفيد الإخبار عن الغيب .

* * *

ومن البديع عندهم ضرب من " الاستثناء " كقول النابغة :

[ ص: 107 ]

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب



وكقول النابغة الجعدي :


فتى كملت أخلاقه غير أنه     جواد فلا يبقي من المال باقيا
فتى تم فيه ما يسر صديقه     على أن فيه ما يسوء الأعاديا



وكقول الآخر :


حليم إذا ما الحلم زين أهله     مع الحلم في عين العدو مهيب



وكقول أبي تمام :


تنصل ربها من غير جرم     إليك سوى النصيحة والوداد



* * *

ووجوه البديع كثيرة جدا ، فاقتصرنا على ذكر بعضها ، ونبهنا بذلك على ما لم نذكر ، كراهة التطويل ، فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع .

* * *

وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها ، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه .

وليس كذلك عندنا ؛ لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعود والتصنع لها ، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له وأمكنه نظمه .

والوجوه التي تقول : إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها ؛ فليس مما يقدر البشر على التصنع له والتوصل إليه بحال . ويبين ما قلنا : أن كثيرا من المحدثين [ ص: 108 ] قد تصنع لأبواب الصنعة ، حتى حشى جميع شعره منها ، واجتهد أن لا يفوته بيت إلا وهو يملؤه من الصنعة ، كما صنع أبو تمام في لاميته :


متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل     وصدرك منها مدة الدهر آهل
تطل الطلول الدمع في كل موقف     وتمثل بالصبر الديار المواثل
دوارس لم يجف الربيع ربوعها     ولا مر في أغفالها وهو غافل
فقد سحبت فيها السحاب ذيولها     وقد أخملت بالنور تلك الخمائل
تعفين من زاد العفاة إذا انتحى     على الحي صرف الأزمة المتماحل
لهم سلف سمر العوالي وسامر     وفيهم جمال لا يغيض وجامل
ليالي أضللت العزاء وخزلت     بعقلك آرام الخدور العقائل
من الهيف لو أن الخلاخيل صيرت     لها وشحا جالت عليه الخلاخل
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس     قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
هوى كان خلسا إن من أطيب الهوى     هوى جلت في أفيائه وهو خامل



ومن الأدباء من عاب عليه هذه الأبيات ونحوها على ما قد تكلف فيها من البديع ، وتعمل من الصنعة ، فقال : قد أذهب ماء هذا الشعر ورونقه وفائدته ، [ ص: 109 ] اشتغالا بطلب التطبيق وسائر ما جمع فيه .

وقد تعصب عليه أحمد بن عبيد الله بن عمار ، وأسرف حتى تجاوز إلى الغض من محاسنه .

ولما قد أولع به من الصنعة ربما غطي على بصره حتى يبدع في القبيح ، وهو يريد أن يبدع في الحسن . كقوله في قصيدة له أولها :


سرت تستجير الدمع خوف نوى غد     وعاد قتادا عندها كل مرقد



فقال فيها :


لعمري لقد حررت يوم لقيته     لو ان القضاء وحده لم يبرد



وكقوله :


لو لم تدارك مسن المجد مذ زمن     بالجود والبأس كان المجد قد خرفا



فهذا من الاستعارات القبيحة ، والبديع المقيت ! !

وكقوله :


تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت     أعمارهم قبل نضج التين والعنب



وكقوله :


لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا     لمات ، إذ لم يمت ، من شدة الحزن



[ ص: 110 ] وكقوله :


خشنت عليه أخت بني خشين



وكقوله :


ألا لا يمد الدهر كفا بسيئ     إلى مجتدي نصر فتقطع من الزند



وقال في وصف المطايا :


لو كان كلفها عبيد حاجة     يوما لزنى شدقما وجديلا



وكقوله :


فضربت الشتاء في أخدعيه     ضربة غادرته عودا ركوبا



فهذا وما أشبهه إنما يحدث من غلوه في محبة الصنعة ، حتى يعميه عن وجه الصواب ، وربما أسرف في المطابق والمجانس ووجوه البديع من الاستعارة وغيرها ، حتى استثقل نظمه ، واستوخم رصفه ، وكان التكلف باردا ، والتصرف جامدا . وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح ، كما يتفق البارد القبيح .

* * *

وأما البحتري فإنه لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام ، ويقل التصنع له . فإذا وقع في كلامه كان في الأكثر حسنا رشيقا ، وظريفا جميلا . وتصنعه [ ص: 111 ] للمطابق كثير حسن ، وتعمقه في وجوه الصنعة على وجه طلب السلامة ، والرغبة في السلاسة ، فلذلك يخرج سليما من العيب في الأكثر .

وأما وقوف الألفاظ به عن تمام الحسنى ، وقعود العبارات عن الغاية القصوى ، فشيء لا بد منه ، وأمر لا محيص عنه . كيف وقد وقف على من هو أجل منه وأعظم قدرا في هذه الصنعة ، وأكبر في الطبقة ، كامرئ القيس ، وزهير ، والنابغة ، وابن هرمة . ونحن نبين تميز كلامهم ، وانحطاط درجة قولهم ، ونزول طبقة نظمهم عن بديع نظم القرآن ، في باب مفرد ، يتصور به ذو الصنعة ما يجب تصوره ، ويتحقق وجه الإعجاز فيه ، بمشيئة الله وعونه .

* * *

ثم رجع الكلام بنا إلى ما قدمناه ، من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه .

وذلك : أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ، ويخرج عن العرف ، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له ، كقول الشعر ، ورصف الخطب ، وصناعة الرسالة ، والحذق في البلاغة . وله طريق يسلك ، ووجه يقصد ، وسلم يرتقى فيه إليه ، ومثال قد يقع طالبه عليه . فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا ، وآخر يتعود أن يكون جميع خطابه سجعا ، أو صنعة متصلة ، لا يسقط من كلامه حرفا ، وقد يتأتى له لما قد تعوده . وأنت ترى أدباء زماننا يضعون المحاسن في جزء . وكذلك يؤلفون أنواع البارع ، ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة أو خطبة فيحسنون به كلامهم . ومن كان قد تدرب وتقدم في حفظ ذلك - استغنى عن هذا التصنيف ، ولم يحتج إلى تكلف هذا التأليف ، وكان ما أشرف عليه من هذا الشأن باسطا من باع كلامه ، وموشحا بأنواع البديع ما يحاوله من قوله .

[ ص: 112 ] وهذا طريق لا يتعذر ، وباب لا يمتنع ، وكل يأخذ فيه مأخذا ويقف منه موقفا ، على قدر ما معه من المعرفة ، وبحسب ما يمده من الطبع .

فأما شأو نظم القرآن ، فليس له مثال يحتذى عليه ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا ، كما يتفق للشاعر البيت النادر ، والكلمة الشاردة ، والمعنى الفذ الغريب ، والشيء القليل العجيب ، وكما يلحق من كلامه ، بالوحشيات ، ويضاف من قوله إلى الأوابد ؛ لأن ما جرى هذا المجرى ووقع هذا الموقع ، فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره ، وللكاتب في قليل من رسائله ، وللخطيب في يسير من خطبه . ولو كان كل شعره نادرا ، ومثلا سائرا ، ومعنى بديعا ، ولفظا رشيقا ، وكل كلامه مملوءا من رونقه ومائه ، ومحلى ببهجته وحسن روائه ، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين ، والمتردد بين الطرفين ، ولا البارد المستثقل ، والغث المستنكر - لم يبن الإعجاز في الكلام ، ولم يظهر التفاوت العجيب بين النظام والنظام .

وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل ، ومبهم قد يحتاج في بعضه إلى تفسير . وسنذكر ذلك بمشيئة الله وعونه .

ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه وأضفناه إليهم : إن ذلك باب من أبواب البراعة ، وجنس من أجناس البلاغة ، وإنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم ، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم ، وإذا أورد هذا المورد ، ووضع هذا الموضع - كان جديرا .

وإنما لم نطلق القول إطلاقا ؛ لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه الخاصة ووقفا عليها ، ومضافا إليها ، وإن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة ، آخذة بحظها من الحسن والبهجة ، متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع والتعمل المستشنع .

التالي السابق


الخدمات العلمية