الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا "ومن باب الإشارة في الآيات" إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون قال ابن عطاء : أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب؛ وأخبر أن الآخرين هم الأموات، وقال غيره : المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافأة مع احتجابهم، وقيل : الآية إشارة إلى أهل الصحو وأهل المحو وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم حيث [ ص: 166 ] فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عز وجل وتغريد باسمه عز اسمه، قيل : إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء. وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشهد برسالته أنشأ يقول :

                                                                                                                                                                                                                                      ألا يا رسول الله إنك صادق فبوركت مهديا وبوركت هاديا     وبوركت في الآزال حيا وميتا
                                                                                                                                                                                                                                      وبوركت مولودا وبوركت ناشيا.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن فيهم أيضا المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك. وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلا ما فرطنا في الكتاب أي كتاب أعمالهم من شيء ثم إلى ربهم يحشرون في عين الجمع والذين كذبوا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم بآياتنا وهي تجليات الصفات صم فلا يسمعون بآذان القلوب وبكم فلا ينطقون بألسنة العقول في الظلمات وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل من يشأ الله يضلله بإسبال حجب جلاله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم بإشراق سبحات جماله قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله من المرض وسائر أنواع الشدائد أو أتتكم الساعة الصغرى أو الكبرى أغير الله تدعون لكشف ما ينالكم إن كنتم صادقين. بل إياه تدعون لكشف ذلك. قال بعض العارفين: مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية؛ ومرجع العوام إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق، وكان هذا في وقت هذا العارف. وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عن تجلي صفة القهر ولكن قست قلوبهم أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا، وأصل كل ذلك سوء الاستعدادقل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم فلم تسمعوا خطابه وأبصاركم فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته وختم على قلوبكم فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه من إله غير الله يأتيكم به أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب؟ كلا بل هو القادر الفعال لما يريد قل لا أقول لكم عندي أي من حيث أنا خزائن الله أي مقدوراته ولا أعلم أي من حيث أنا أيضا الغيب ولا أقول لكم إني ملك أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب إن أتبع أي من تلك الحيثية إلا ما يوحى إلي من الله تعالى. وله صلى الله عليه وسلم مقام وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . و إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو قل هل يستوي الأعمى عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقيده سبحانه بشيء من المظاهر والبصير بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال ولا تطرد أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان الذين يدعون ربهم الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال بالغداة أي وقت تجلي الجمال والعشي أي وقت تجلي العظمة والجلال يريدون وجهه أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم ما عليك من حسابهم أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقوله تعالى: وما من حسابك عليهم من شيء عطف [ ص: 167 ] على سابقه أتي به للمبالغة على ما مر في العبارة. ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء، ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات فتطردهم عن الجلوس معك فتكون من الظالمين لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم. ومن المؤولين من قال: إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائما بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم ما عليك من حسابهم فيما يعملون من شيء إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم وما من حسابك عليهم من شيء أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه فتطردهم عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني فتكون من الظالمين لتشويشك عليهم أوقاتهم. والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه وكذلك فتنا بعضهم أي الناس وهم المحجوبون ببعض وهم العارفون ليقولوا أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم، ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن؛ وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش أهؤلاء من الله عليهم بالهداية والمعرفة من بيننا أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم أليس الله بأعلم بالشاكرين أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا أي بواسطتها فقل لهم أنت أيها الوسيلة : سلام عليكم وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه سلام قولا من رب رحيم وباقي الآية ظاهر

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام الرازي : إن قوله سبحانه : وإذا جاءك إلخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم أنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات. وهذا شرح إجمالي لا نهاية لتفاصيله. ثمأن العبد إذا صار موصوفا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : سلام عليكم فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة، وقوله سبحانه: كتب ربكم على نفسه الرحمة بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر : الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا فقل سلام عليكم لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها كتب ربكم على نفسه الرحمة أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفا عن كل ما فات أنه من عمل منكم سوءا بجهالة أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة ثم تاب من بعده أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور وأصلح أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه [ ص: 168 ] سبحانه والرياضة فأنه عز شأنه غفور يسترها عنه رحيم يرحمه بهبة التمكين ونعمة الاستقامة وكذلك نفصل الآيات أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا ولتستبين سبيل المجرمين وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون. والله تعالى الموفق للصواب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية