الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فذكر الإمام أحمد بعد تفسير المعية التي احتجوا بها من جهة السمع حجتين عقليتين، فذكر قول الجهمية أنه في كل شيء غير مماس للأشياء ولا مباين لها. وهذا قول الجهمية الذين ينفون مباينته، ثم يبقون مع ذلك مماسته، فيقولون: هو في كل مكان. والصنف الآخر كالمؤسس ينفون مباينته الحقيقة وإن قالوا إنهم يثبتون مباينته بالحقيقة والزمان؛ فإن أولئك أيضا وإن نفوا المباينة فإنهم يثبتونها بالحقيقة والزمان، فكلا الطائفتين يقولون إنهم يثبتون مباينته؛ لكن ينفون أن يكون خارج العالم. وكل من الصنفين خصم للآخر فيما يوافقه عليه الجماعة، فالأولون يقولون كما تقول الجماعة: إنه إذا لم يكن مباينا للعالم بغير الحقيقة والزمان كان محايثا له خلافا للطائفة الأخرى، ثم تقول بما تقول به الأخرى. و[ما] ليس بمباين للعالم بغير الحقيقة والزمان فيلزم أن يكون محايثا له. والآخرون يقولون: إذا كان محايثا للعالم كان مماسا له كما تقول الجماعة خلافا لتلك الطائفة، ثم يقولون مع الجماعة: و[ما] ليس بمماس [ ص: 121 ] للعالم فيلزم أن لا يكون فيه و[ما] لا [يكون] مباينا له بغير الحقيقة والزمان فلا يكون خارجا عنه.

وأحمد رحمه الله ذكر ما يعلم بضرورة العقل من أنه إذا كان فيه وليس بمباين، فإنه لابد أن يكون مماسا له؛ فإنه لا يعقل كون الشيء في الشيء إلا مماسا له، لا مباينا له. فإنه لما كان خطابه مع الجهمية الذين يقولون إنه في كل مكان ذكر أنه لابد من المماسة أو المباينة على هذا التقدير وهو تقدير المحايثة؛ فإن أولئك لم يكونوا ينكرون دخوله في العالم، وإنما ينكرون خروجه. وذكر دعوى الجهمية بنفي هذين النقيضين. قال: فقلنا إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟ قال: لا. قال: فكيف يكون في كل شيء غير مماس؟! يقول أحمد: إن هذا لا يعقل، فكيف يكون ذلك؟! وذكر أن الخصم لم يحسن الجواب عن ذلك؛ فإنه لا يمكنه أن يذكر ما يعقل كونه في كل شيء، وهو مع ذلك غير مماس. فلما كان هذا غير معقول لجأ الخصم إلى أن قال: بلا كيف. قال أحمد رحمه الله: فخدع الجهال بهذه الكلمة، موه عليهم.

[ ص: 122 ] فبين أحمد أن هذه الكلمة إنما يقبلها الجهال فينخدعون بها؛ لأنهم يعتقدون أن ما ذكره هذا ممكن، وإن لم نعلم نحن كيفيته؛ وإنما كانوا جهالا لأنهم خالفوا العقل والشرع، وقبلوا ما لا يقبله العقل، واعتقدوا هذا من جنس ما أخبر به الشارع من الصفات، التي لا نعلم نحن كيفيتها، والفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن الله ورسوله عالم صادق فيما أخبر به عن نفسه وهو أعلم من عباده، فإذا أخبرنا بأمر فقد علمنا صدقه في ذلك، وعلمنا مما أخبرنا به ما أفهمناه، وما لم نعلم كيفيته من ذلك لا يضرنا عدم علمنا به بعد أن نعلم صدق المخبر. وأما هؤلاء فإنما يدعون ما يقولونه بالعقل لا يثبتونه بالشرع، فإذا كان العقل الذي به يعتصمون لا يقبل ما يقولونه ولا يثبته؛ بل ينفيه، كان ما يقولون باطلا، ولم يكن لهم به علم، وكانوا أسوأ حالا ممن استشهد بشاهد فكذبه أو نزع بآية ليحتج بها وكانت حجة عليه؛ إذ كان مفزعهم العقل، والعقل عليهم لا لهم.

وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو كما ذكرناه على كلام هذا المؤسس ونحوه من أنهم يدعون العقل ما لا يقبله العقل بل يرده، كدعواهم: وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، كما قال إخوانهم بوجود موجود في العالم لا مباين العالم ولا مماس [ ص: 123 ] له. / ثم إن صنف المؤسس وهذا الصنف الآخر كل منهما يقول بأن الإلهيات تثبت على خلاف ما يعلمه الناس، وتثبت بلا كيفية، ويدعون ذلك فيما يثبتونه بالعقل، والعقل نفسه لا يقبل ما يقولونه بل يرده بضرورته وفطرته، فضلا عن قياسه ونظره.

الوجه الثاني: أن الشارع لم يخبر بما يعلم بالعقل بطلانه، ولا بما يحيله العقل حتى يكون نظيرا لهذا، وهؤلاء ادعوا ما يرده العقل ويحيله؛ فلهذا كان ما أخبر به الشارع يقال له: والكيف مجهول. ويقال فيه: بلا كيف. لعدم امتناعه في العقل. وهؤلاء الجهمية ادعوا محالا في العقل، فلم يقبل منهم بلا كيف؛ ولهذا قال الإمام أحمد: "إنه خدع الجهال بهذه الكلمة، موه عليهم" حيث لم يثبتوا الفرق بين خبر الشارع وبين كلام هؤلاء الضلال، ولم يثبتوا الفرق بين ما يقبله العقل ويرده.

وهذا الذي ذكره أحمد عنهم من قولهم: هو فيه غير مباين ولا مماس، وقول الآخرين الذين منهم المؤسس: لا داخله ولا خارجه. قد علم بالفطرة الضرورية أنه خروج عن النقيضين، [ ص: 124 ] كما علم مثل ذلك في قول سائر الجهمية من الملاحدة والباطنية ونحوهم حيث قالوا: هو لا حي ولا ميت، ولا عاجز ولا قادر، ولا عالم ولا جاهل. وكلام هؤلاء كلهم من جنس واحد يتضمن الخروج عن النقيضين، ويتضمن تعطيل ما يستحقه الباري، وحقيقته تعطيل ذاته بالكلية، وتعطيل معرفته وذكره وعبادته. بحسب ما نعوه من ذلك.

فإن قيل: ما ذكره الإمام أحمد وقدرتموه من امتناع كونه في العالم غير مباين ولا مماس معارض بما يذكره طوائف من أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، القائلون بأنه فوق العرش؛ فإنهم يقولون: هو فوق العرش غير مباين ولا مماس. فما الفرق بين الموضعين؟ قيل: هؤلاء الذين يقولون هذا إنما يقولونه، لأنهم يقولون إنه فوق العرش، وليس بجسم، وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف ممن اتبعهم من أهل الفقه وغيرهم. وطوائف كثيرة من أهل الكلام والفقه يقولون: بل [ ص: 125 ] هو مماس للعرش. ومنهم من يقول: هو مباين له.

التالي السابق


الخدمات العلمية