الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 587 ] حرف العين المهملة

عاذ بالله يعوذ، أي استجار بالله ولجأ إليه، ليدفع عنه ما يخاف. ويقال: استعاذ يستعيذ. ومنه: معاذ الله

( ( عالمين ) ) : جمع عالم، وهو عند المتكلمين كل موجود سوى الله تعالى. وقيل العالمين الإنس والجن والملائكة لجمعه جمع العقلاء. وقيل الإنسان خاصة، لقوله تعالى: أتأتون الذكران من العالمين . والأول هو الصحيح، لقوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . لأن رحمته - صلى الله عليه وسلم - عمت جميع الموجودات. وقد قال لجبريل يوما: ما نالك من رحمتي، قال له: لولا وجودك لم أذكر بقوله: ذي قوة عند ذي العرش مكين " عمه " : تحير. ومنه: ويمدهم في طغيانهم يعمهون . أي يتحيرون في ضلالهم.

( عاكفين ) : مقيمين للعبادة ملازمين حيث وقع، ومنه قوله: طهرا بيتي للطائفين والعاكفين .

فإن قلت: قد ورد في آية الحج [26] ، مكان العاكفين القائمين، فهل هما بمعنى واحد؟

والجواب المراد بالقائمين ذوو الإقامة والملازمة على صفة مخصوصة، وإذا أريد بالقائمين هذا فهو والعكوف مما يصح أن يعبر بأحدهما عن الآخر، مع أن لفظ العكوف أخص بالمقصود، فيكون خصوص آية الحج بقوله: والقائمين، [ ص: 588 ] لتقدم ذكر العكوف في قوله قبل الآية: سواء العاكف فيه والباد ، فلما تقدم ذكر العكوف متصلا بالآية وقع الاكتفاء بذلك، وعدل عن التكرار الذي من شأن العرب العدول عنه إلا حيث يراد تعظيم أو تهويل، نحو قوله: الحاقة ما الحاقة ، وشبه ذلك. ولما لم يقع ذكر العكوف قبل آية البقرة ولا بعدها وهو مراد لكونه أخص بالمقصود لم يكن بد من الإفصاح، وكان قد قيل في آية الحج: والقائمين، وأغنى ذكرهم متقدما عن الإتيان به حالا منبهة. وأغنى قوله في البقرة: والعاكفين عن قوله: والقائمين ، لأن العكوف الملازمة، وهو المراد بالقيام، فورد كل على ما يجب ويناسب. ويراد بالركع السجود - المصلون. ومن قال: إن المراد بقوله: والقائمون المصلون فوجهه أن ذكر العكوف قد حصل فيما تقدم، فاكتفي به، ولم يكن وقع قبل آية البقرة ولا بعدها، فلم يكن بد من ذكره. وعبر عن المصلين بالركع السجود. وتحصل أنه المقصود بالآيتين، ووردتا على ما يلائم. والله أعلم.

( عدل ) : مثل، كقوله: أو عدل ذلك صياما . وفدية، كقوله: ولا يؤخذ منها عدل . وكذا قوله: وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها . والعدل من أسماء الله تعالى، لأن أفعاله كلها عدل، فقيل العدل هو الحق، فكل عدل حق، وما ليس بعدل فليس بحق.

فإن قلت: ما وجه تقديم العدل في آية وتأخيره في أخرى؟

والجواب أن في تقديم الشفاعة قطعا لطمع من زعم أن آباءهم تشفع لهم، وأن الأصنام شفعاؤهم عند الله. وأخرها في الأخرى، لأن التقدير في الآيتين لا تقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن النفع بعد القبول. وقدم العدل في الأخرى ليكون لفظ القبول مقدما فيها.

- ( عفونا) له ثلاثة معان: الصفح عن الذنب، والإسقاط من غير كلفة، ومنه: ماذا ينفقون قل العفو . [ ص: 589 ] وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل، مشاكلة للسؤال، على أن يكون: ماذا ينفقون مركبا مفعولا بـ ينفقون . وقرأ أبو عمرو بالرفع بالابتداء مشاكلة للسؤال على أن يكون ما مبتدأ وذا خبره.

( عفا ) له أربعة معان: عفا عن الذنب، أي صفح عنه. وعفا أسقط حقه، ومنه: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح . وعفا القوم: كثروا، ومنه: حتى عفوا . وعفا المنزل درس.

( ( عنت ) ) : زنا. ومنه: لمن خشي العنت منكم . وأما قوله تعالى: لأعنتكم ، فمعناه لضيق عليكم بالمنع من مخالطتهم. ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى.

( عوان ) : متوسطة بين ما ذكر، ولذلك قال " ذلك "، مع أن الإشارة إلى شيئين.

( ( عهدنا إلى إبراهيم ) ) : العهد له معان: بمعنى اليقين:

( وأوفوا بعهد الله ) ، ألا ترى قوله: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها . ويقال علي عهد الله، أي اليمين بالله. وبمعنى الأمان، قال تعالى: فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم . وبمعنى الوحي: إن الله عهد إلينا . وبمعنى الوعد: قل أتخذتم عند الله عهدا . وبمعنى الميثاق: لا ينال عهدي الظالمين ، أي ما وعدناك به لا ينال الظالمين من ذريتك. والوعد من الله ميثاق. وبمعنى المحافظة، ومنه الحديث: حسن العهد من الإيمان. وبمعنى الزمان، يقال: كان ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى عهد إبراهيم وموسى وعيسى. وبمعنى الوصية كهذه الآية، وكقوله: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ، أي وصيناه ألا يأكل من الشجرة، فنسي العهد الذي عهدناه، وأكل منها، فآدم دخل الجنة بعهده، وخرج. [ ص: 590 ] وأنت يا محمدي تدخل الجنة بعهدي، فلا تخرج. والسر فيه أن آدم لم يكن له ركوع ولا سجود، ولا جهاد ولا تضرع، ولكنه لم يعتقد الزلة كما قال تعالى: ولم نجد له عزما . وإبليس اعتقد الزلة بعد عبادته ولم يعتذر، فلم تخلصه حسناته، كالكافر يعتقد الزلات الكثيرة، ولا يعتذر.

وأنت تعتذر فكيف لا أقبل عذرك، وقد كلفتك بأوامر كثيرة، ونهيتك عن نواهي عديدة، وأبوك آدم لم يكن له إلا أمر واحد وهو البعد من الشجرة، وقد قبلت عذره، فإن اعتذرت إلي ألحقتك بأبيك في السكنى معه، قال تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء

( عابدون ) : مخلصون. وقيل أذلاء، من قولهم: طريق معبد، أي مذلل قد أثر الناس فيه.

( عزموا الطلاق ) ، أي طلقوا أو آلوا، فيطلق عليهم الحاكم. والضميريعود على المؤلين، وطلاقهم بائن عند الشافعي وأبي حنيفة. رجعي عند مالك.

( ( على المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ) : في هذه النفقة والكسوة قولان:

أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد أوجبها الله للأم على الوالد، وهو قول الزمخشري وابن العربي.

الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وعلى ذلك حملها ابن فورك.

( عرضتم به من خطبة النساء ) : إباحة للتعريض بخطبة المرأة المعتدة. ويقتضي ذلك النهي عن التصريح.

( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) : بإسكان الدال وفتحها، وهما بمعنى. وعلق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: حقا . وتعلق مالك في الندب بقوله: على المحسنين ، لأن الحسن تطوع بما لا يلزم. [ ص: 591 ] والحاصل أنه يمتع كل أحد على قدر ما عنده، والموسع: الغني. والمقتر: الضيق الحال.

( على نساء العالمين ) هذا التفضيل لمريم ما عدا خديجة وفاطمة رضي الله عنهما، أو يكون على نساء زمانها.

وقيل : هذا الاصطفاء مخصوص بأن وهب لها عيسى من غير أب، فيكون على نساء العالمين عاما.

وقيل : إنها كانت نبيئة لتكليم الملائكة لها، قال بعض العلماء: إن عائشة أفضل من مريم، لأن براءة مريم كانت على لسان عيسى، وبراءة عائشة كانت بقول الله تعالى. فالرب الذي تولى براءتك وتطهيرك بقوله تعالى: ولكن يريد ليطهركم التائبون العابدون الحامدون . وسماكم يا أمة محمد بالهداية والخير، والعدل والأمانة، أفتراه يطردهم بعد أن دعاهم إلى نفسه، وهو لا يريد قبولهم. وقد سمعناه يقول للتائبين: وإني لغفار لمن تاب إذا مشوا إليه برجل الندامة على قدم الاعتذار، وللعابدين إذا مشوا برجل النشاط على قدم الجهد والاجتهاد على قدم الدرجات،

( ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ) . وللزاهدين إذا مشوا برجل القناعة على قدم التوكل مع مراد الله،

تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، وللمحبين إذا مشوا برجل الرضا على قدم المودة مع مراد الذكر،

( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ، وللمشتاقين إذا مشوا برجل المحبة على قدم الإنابة، مع مراد القربة: وجوه يومئذ ناضرة .

فإن قلت: ما الحكمة في تبريح العارفين؟

فالجواب لأنهم تعهدوا على الكفار بتبليغ الرسالة إليهم. ومن كان شاهدا له يخدمه ويزكيه ليكون شاهدا له على الحقيقة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين عرضها السماوات والأرض : أي تقرن السماوات والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، [ ص: 592 ] ولا يعلم طولها إلا الله، لأن الله قال لها: امتدي فامتدت، ثم قال لها: امتدي فامتدت، ثم قال لها: امتدي فامتدت، قالت: إلى أين يا رب، قال: إلى منتهى رحمتي، فقالت: لا منتهى لرحمتك. فقال لها: ولا منتهى لك.

وقيل : ليس العرض هنا خلاف الطول، وإنما المعنى سعتها كسعة السماوات والأرض.

فإن قلت: إذا كان عرضها هذا، فما معنى ما ورد أنها في السماء،

وقيل في الأرض،

وقيل بالوقف حيث لا يعلمه إلا الله؟

والجواب أن الذي يجب اعتقاده ويفهم من القرآن والحديث أن الجنة في عالم الجبروت، وأن العرش سقفها، كما صح في الحديث: "سلوا الله الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

والآية الكريمة: قلنا اهبطوا ، تدل على أنها فوق السماوات. وقد قدمنا أن العوالم أربعة: الملك، وهو الدنيا وما فيها. والملكوت وهو السماوات وما فيها. والجبروت وهو اللوح والكرسي والقلم. والجنة وفوقها العرش الذي تأوي إليه أرواح الشهداء. وعالم العزة لا يعلم ما فيه إلا الله ورسوله الذي زج فيه - صلى الله عليه وسلم - وشاهد فيه من العجائب ما أخبر الله به في قوله: لقد رأى من آيات ربه الكبرى .، وخلف جبريل عند سدرة المنتهى، وقال: يا محمد، لا أقدر على مجاوزة هذا المكان، وما منا إلا له مقام معلوم .

وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان، من طريق عبيد، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعا: "أن جهنم محيطة بالدنيا، وأن الجنة من ورائها، فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة".

فإن قلت: يفهم من هذا الحديث أن جهنم تحت الأرض؟

والجواب أنا نقول فيها بالوقف، إذ لا يعلم محلها إلا الله، ولم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك غير ما رواه ابن عبد البر وضعفه، عن عبد الله بن عمر - مرفوعا: "لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر، فإن تحت البحر نارا". [ ص: 593 ] وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن وهب بن منبه: "إذا قامت القيامة أمر بالمغلق فيكشف عن سقر وهو غطاؤها، فيخرج منه نار، فإذا وصلت إلى البحر المطبق على شفير جهنم - وهو بحر البحور - نشفته أسرع من طرفة عين، وهو حاجز بين جهنم والأرضين، فإذا نشفت الأرضين السبع فتدعها جمرة واحدة.

وقيل هي في وجه الأرض، لما روي عن وهب أيضا قال: أشرف ذو القرنين على جبل قاف، فرأى تحته جبلا صغيرا إلى أن قال: يا قاف، أخبرني عن عظمة الله، فقال: إن شأن ربنا لعظيم، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج، يحطم بعضها بعضا، ولولا هي لاحترقت من حر نار جهنم. وروى الحارث بن أبي أسامة في مسنده، عن عبد الله بن سلام، قال: الجنة في السماء، والنار في الأرض. وروى أن اليهود قالوا لعمر: وجنة عرضها السماوات والأرض ، فأين النار؟ قال عمر: أفرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل، فقالوا: إنها لمثلها في التوراة. قالوا: إن باب الجنة في السماء وعرضها السموات والأرض.

فإن قلت: قد صح أنها لا منتهى لها، وأن العرش سقفها، والعرش له حد ومقدار، فما معناه.

والجواب أن العرش لها كالخيمة، فلا يلزم أن يكون العرش محتويا على جميعها، وهذا مشاهد. وقد صح أنها تبقى بلا ساكن حتى يخلق الله لها من يسكنها.

فتفكر أيها العبد عبد من أنت، ومن أنت حتى أهلك لخدمته وعرفك به حتى طلبته، وما قيمة أعمالك في جنب من عبده، فاحمد الله على أن أهلك لخطابه، وجعلك من أحبابه، وإياك ومعصيته، فإنها تورثك بعده. أما علمت أنه على قدر معرفتك به هنا تكون رؤيتك له هناك، وبمعرفتك له يتولد منه [ ص: 594 ] التعب، لكنها توصلك إلى رؤيته التي يزول عنك بها النصب والكرب، ولما علم سبحانه أن الدنيا دار محن ومعايش، جعل لهم هذه المعرفة التي يتوصلون بها إلى رؤية ذاته، وعلى قدر طول الغربة يكون سرور الأوبة، ولو رأيناه بغير تعب لما وجدنا لها لذة، ألا ترى آدم لم يعرف قدرها حتى خرج منها، والمسوق بالتعب ألذ من المسوق بلا تعب، فالمعرفة ميدان الخدمة، والرؤية ميدان الراحة، والمعرفة تكون مع بعد عن المراد، والرؤية مع قرب النفس إلى المراد، والمعرفة مع الخوف والخطر، والرؤية مع الرضا والكرامة. والمعرفة أول الكرامة، والرؤية تتمتها، والمعرفة في جوار الشيطان، والرؤية في جوار الرحمن، والمعرفة البراءة عن الخلق، والرؤية الوصول إلى الحق. والمعرفة للواصفين، والرؤية للواصلين. والمعرفة في الجنس، والرؤية في الأنس. وأهل المعرفة يشتاقون إلى موضع الواصلين، والواصلون لا يشتاقون إلى موضع العارفين، فكل من رأى فقد عرف، وليس من عرف قد رأى.

فإن قلت: لم خصت هذه الآية بما تمهد فيها من قصد المبالغة والتعظيم من قوله: وسارعوا إلى مغفرة ، دون آية الحديد؟

والجواب لبنائها على الحض على الجهاد وعظيم فضله، وذكر قصة بدر واحد من لدن قوله: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين . إلى ما بعد الآية المتكلم فيها، ولما لم يكن في آية الحديد شيء من ذلك ناسب كلاما ورد فيها. والله أعلم.

( عزمت ) ، أي صححت رأيك فيما مضى من الأمر. والمخاطب بذلك نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -.

( ( عاشروهن ) ) ، أي صاحبوهن بالمعروف، وأمر الله في هذه الآية الرجال بالصفح عنهن وممازحتهن وخدمتهن بما أمكن، وله عليها أعظم من ذلك، لقول الله العظيم: وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم [ ص: 595 ] " عضل " المرأة، أي منعها من الزواج، ومنه: فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن . قال ابن عباس: هي في أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوج بعده، إلا أن قوله: ما آتيتموهن على هذا معناها ما آتاها الرجل الذي مات. وقال ابن عباس أيضا: هي في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدي بصداقها، وهو ظاهر اللفظ في قوله: ما آتيتموهن . ويقويه قوله: وعاشروهن بالمعروف ، فإن الأظهر فيه أن يكون في الأزواج، وقد يكون في غيرهم،

وقيل هي للأولياء.

( عاقر ) : له معنيان: المرأة العقيم. واسم فاعل من عقر الحيوان.

( ( عزرتموهم ) ) : نصرتموهم، وأعنتموهم.

( عدوا بغير علم ) : اعتداء، استدل المالكية بهذا على سد الذرائع، يعني لا تسبوا آلهتهم، فيكون ذلك سببا لأن يسبوا الله.

( عند الله ) : يعني الآيات بيد الله لا بيدي.

( عتوا ) : تكبروا وتجبروا، وهم الذين لا يقبلون الموعظة.

( ( عدل ) ) يعدل عدلا: ضد جار، وعدل عن الحق عدولا، وعدلت فلانا بفلان سويت بينهما، ومنه: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون . ودخلت " ثم " لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السماوات والأرض والظلمات والنور. وكذلك قوله: ثم أنتم تمترون ، استبعاد لأن يمتروا فيه بعد وضوح آياته، وبعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم، وتوبيخ لهم. " والذين كفروا " هنا عام في كل مشرك، وقد يختص بالمجوس بدليل ذكر الظلمات والنور، أو بعبدة الأصنام، لأنهم المجاورون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليهم يقع الرد في أكثر القرآن. [ ص: 596 ] عرض الدنيا .: عتاب لمن رغب في فداء الأسارى، فإذا عاقب أحب خلقه على هذا الشيء التافه فما بالك بمن هو منغمس في الحرام، مرتكب للآثام، قد غلب عليه سكر الدام، لا يرعوي عن قبيح، ولا يزدجر عن لوم. هذا وقد أحل الله لهم الأكل من الغنائم مع احتياجهم إليها.

( عيلة ) : فقرا، وذلك أن المشركين كانوا يجلبون الأطعمة إلى مكة، فخاف بعضهم قلة القوت بها إذا منع المشركون منها، فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله، فأسلمت العرب كلها، وتمادى جلب الطعام إلى مكة، ثم فتح المسلمون سائر الأمصار.

( عن يد ) : عن قهر وذل فيدفعها بيده لا يبعثها مع أحد، ولا يمطل بها، كقولك: يدا بيد.

وقيل عن استسلام وانقياد، كقولك: ألقى فلان يده.

وقيل عن إنعام منكم عليهم بذلك، لأن أخذ الجزية منهم وترك أنفسهم عليهم من بذل المعروف.

( عزيز ) : اسم الله تعالى: معناه الغالب، ومنه: وعزني في الخطاب ، أي غلبني. والغلبة ترجع إلى القدرة والقوة، ومنه: فعززنا بثالث ، أي قوينا.

وقيل العزيز العديم المثل. وأما قوله تعالى: عزيز عليه ما عنتم . فعزيز صفة للرسول، وما عنتم فاعل بعزيز، وما مصدرية. أو " ما عنتم " مبتدأ و " عزيز " خبر مقدم. والجملة في موضع الصفة. والمعنى أنه يشق عليه - صلى الله عليه وسلم - عنتكم وما يضركم في دينكم ودنياكم، يقال عزه يعزه عزا إذا غلبه. ومنه قولهم: من عز بز، أي من غلب سلب.

( عدن ) : هي أعظم مدن الجنة. وقيل هو اسم علم على الإقامة.

( عاصم ) : مانع، ومنه قوله تعالى: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم . وتحتمل الآية أربعة أوجه: [ ص: 597 ] أحدها: أن يكون عاصم اسم فاعل، و من رحم كذلك بمعنى الراحم. فالمعنى لا عاصم إلا الراحم، وهو الله تعالى.

والثاني: أن يكون عاصم بمعنى العصمة، أي معصوم، و من رحم بمعنى مفعول، أي من رحمه الله. فالمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله، فالاستثناء على هذين الوجهين متصل.

والثالث: أن يكون عاصم فاعل، و من رحم بمعنى المفعول، والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم. والراجي: عكسه، والاستثناء على هذين منقطع.

( عذاب يخزيه ) : هو الغرق، والعذاب المقيم عذاب النار.

( عمل غير صالح ) : فيه ثلاثة تأويلات على قراءة الجمهور:

أحدها: أن يكون الضمير في إنه سؤال نوح نجاة ابنه.

والثاني: أن يكون الضمير لابن نوح، وحذف مضاف من الكلام، تقديره: إنه ذو عمل غير صالح.

والثالث: أن يكون الضمير لابن نوح، وما مصدر وصف به مبالغة. كقولك: رجل صوم. وقرأ الكسائي عمل - بفعل ماض، غير صالح - بالنصب. والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال، لأن الله تعالى لما أراد أن يعذبه قطع نسبه عنه، ووصفه بعدم الصلاحية. وأنت يا محمدي أضافك إلى نفسه، بقوله: يا عبادي، وإلهكم، أفتراه يعذبك بعد هذه الإضافة. ولذلك قيل الإشارات ستة: إشارة إلى المتقين بقوله: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم . وإشارة العابدين: فاسعوا إلى ذكر الله . وإشارة العاصين: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . وإشارة الهاربين إلى حصنه: ففروا إلى الله . [ ص: 598 ] وإشارة التائبين إلى الفلاح: وتوبوا إلى الله جميعا . وإشارة أهل الكتاب إلى الفلاح: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة .

وإذا أردت محبة الله لعباده فانظر كيف خفف المعصية على النفس، وثقل عليها الطاعة، ليكون لها حجة، ويقبل عذرها إذا رجعت إليه، فالله يثيب المطيع بغاية الثواب للامتثال، ويعاقب الكافر بأقبح العقوبة للمخالفة، والعاصي يعاقبه في الدنيا بأنواع الأمراض والأسقام حتى في قطع شسع نعله إن لم يتب، حتى يلقى الله ولا ذنب عليه. قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير

( عاهدتم من المشركين ) : إنما أسند العهد إلى المسلمين، لأن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لازم للمسلمين، فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفى، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقض أو قارب النقض، فجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد.

( عاهدت منهم ) : يريد بني قريظة.

( على سواء ) ، أي على معدلة. وقيل معناه أن تستوي معهم في العلم فتنقض العهد.

( عرضا قريبا ) : هذا الكلام وكثير مما بعده في هذه السورة في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة، وكانت في شدة الحر وطيب الظلال والثمار، فثقلت عليهم، فأخبر الله في هذه الآية أن السفر لو كان لعرض الدنيا أو مسافة قريبة لاتبعوه.

( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) : قدم الله العفو لنبيه قبل عتابه، إكراما له وجبرا لقلبه أن ينصدع، وذلك لخوفه من ربه، كأنه قال: أصلحك الله يا محمد، لم أذنت لهم في التخلف عن الخروج معك حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، لأنهم قالوا نستأذنه في القعود، فإن أذن لنا [ ص: 599 ] قعدنا، وإن كان يظهر الصدق من الكذب، وإن لم يأذن قعد العاصي والمنافق ويسافر المطيع.

( عنيد ) : ومعاند وعنود بمعنى واحد، أي معارض للحق مخالف، يقال: عرق عنود، وطعنة عنود، إذا خرج الدم منها على جانب.

( على تقوى من الله ) : أي حسن النية في تأسيس بنيانه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه. والمراد به مسجد المدينة، أو مسجد قباء.

( على الله رزقها ) : قد قدمنا أنه وعد وضمان. فإن قيل: كيف قال: على الله بلفظ الوجوب، وإنما هو تفضل، لأن الله لا يجب عليه شيء؟

والجواب أنه ذكره كذلك تأكيدا في الضمان، ولأنه لما وعد فيه صار واقعا لا محالة، لأنه لا يخلف الميعاد.

( عرشه على الماء ) : دليل على أن الماء والعرش كانا موجودين قبل خلق السماوات والأرض، فسبحان من لا يشبه صنعه صنع المخلوقين، ولا تدرك حقائق حكمته بصيرة المحققين، إبليس كانت قبلته العرش، فصار مخذولا ومطرودا، وعمر بن الخطاب كانت قبلته الصنم فصار مودودا ومحمودا، إذا أراد الله أن يدخل المنافق فيمن يوافق، وإذا لم يرد إدخال الموافق فيمن ينافق لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، سمكة أخذتها اليهود فصاروا قردة، وسمكة أخذت يونس فصارت رئيس السمك.

( ( على أمم ممن معك ) ) ، أي في السفينة. واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذرية ممن معك. ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة. فمن على هذا لابتداء الغاية، والتقدير على أمم ناشئة ممن معك. وعلى الأول تكون " من " لبيان الجنس.

( عذاب غليظ ) : يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة، ولذلك [ ص: 600 ] طف على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح.

ويحتمل أن يريد بالثاني أيضا الريح، وكرره إعلاما بأنه عذاب غليظ، وتعديد النعمة في نجاتهم.

( ( عصوا رسله ) ) : في جمع الرسل هنا وجهان:

أحدهما: أن من عصى رسولا واحدا لزمه عصيان الجميع، فإنهم متفقون على الإيمان بالله تعالى وعلى توحيده. والثاني: أن يراد الجنس، كما قدمنا. وانظر كيف شنع كفرهم، وهول على فعلهم بحرف التنبيه وبتكرار أسمائهم.

( عصيب ) : شديد.

( عاليها سافلها: ) الضمائر لمدائن قوم لوط، واسمها سدوم. يقال: أحور من قطاة سدوم.

روي أن جبريل أدخل جناحه تحت مدائنهم واقتلعها فرفعها حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة.

( عليها حجارة من سجيل ) : أي على المدائن. والمراد أهلها ومن كان خارجا منها. وأما من كان فيها فقد هلك بقلبها.

( على العرش ) ، أي على سرير الملك، يعني أن يوسف رفع أبويه على العرش وخروا سجدا، لأنه كان تحية السلام عندهم السجود، وإنما سمى خالته أما لأن العرب تسميها أما وكان يعقوب تزوجها من بعد وفاة أم يوسف.

والإشارة فيه أن يعقوب لما تغرب من كنعان جعل حجر يوسف مأواه. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لما تغرب من أبويه جعل حجر أبي طالب مأواه. وأنت يا محمدي إذا تغربت في الدنيا، وجعلت الآخرة منزلك جعل الله الجنة مأواك، قال تعالى: فإن الجنة هي المأوى " عمر " ،

وعمر، بالجزم والضم واحد، وهو الحياة، ومنه: لعمرك ، ولا يكون في القسم إلا مفتوحا. [ ص: 601 ] " عبر " : يعبر: له معنيان: من عبارة الرؤيا، ومنه: إن كنتم للرؤيا تعبرون . ومن الجواز على الموضع. ومنه: عابري سبيل

( عمين ) ، وعمون، جمع عم، وهو صفة على وزن فعل، بكسر العين، من العمى في البصر، أو في البصيرة.

( عمد ترونها ) : اختلف العلماء: هل للسماء أعمدة ترونها. فالقائل بها قال: لها جبل قاف، وهذا القائل يجعل الضمير في ترونها عائد على العمد، فيكون المعنى أنها مرفوعة بغير عمد مرئي. وهذا لا يصح. والصواب مذهب الجمهور أنها مرفوعة بغير عمد. واستدل به ابن عبد السلام على أن السماء بسيطة، إذ لو كانت كورية لما احتيج إلى قوله: بغير عمد ، لأن الكورية مرفوعة بعمد يعتمد بعضها على بعض . ابن عرفة: وهذا لا حجة فيه، لأن الناس لا يعرفون ولا يقطعون بكونها كورية أو بسيطة، وإنما يصح هذا لو كانوا يقطعون بأحد الأمرين، فيقال لهم: بغير عمد ليفهم كمال القدرة.

وروي أن ذا القرنين لما وصل إلى جبل قاف صعد عليه حتى ربط خيله بجانب السماء، وهذا يحتاج لنقل صحيح.

( عد ) ، بغير ألف: من العدد، وأعد بالألف: يسر الشيء وهيأه.

( عضدا ) : أعوانا.

( ( عرضنا جهنم ) ) ، أي أظهرناها حتى رآها الكفار.

( ( عنت الوجوه ) ) ، أي ذلت وخضعت، وكيف لا تخضع وتذل، والأنبياء يومئذ يقولون: نفسي نفسي ، لا أسألك غيرها!.

واعلم أن الله ذكر الوجوه في القرآن على سبعة أوصاف، ورتب وجوه الكفار في الآخرة على سبع: وجه التسليم: أسلمت وجهي . ووجه العبرة: على وجه أبي . ووجه الرضا والتفويض: قد نرى تقلب وجهك . ووجه العبادة: سيماهم في وجوههم . [ ص: 602 ] ووجه الإقبال والطاعة: فولوا وجوهكم شطره . ووجه الإخلاص: وجهت وجهي . ووجه الطهارة: فاغسلوا وجوهكم .

وأما وجوه الكفار فذكر لها سبعة ألوان من العذاب: تلفح وجوههم النار يضربون وجوههم وأدبارهم فكبت وجوههم في النار الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم ووجوه يومئذ عليها غبرة فأما الذين اسودت وجوههم .

فإياك أيها الأخ أن يكون وجهك أحد هذه الوجوه، واحرص على أن يكون من الوجوه السبعة الذين ذكرهم الله في الآخرة، قال تعالى: تعرف في وجوههم نضرة النعيم وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون .

اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء رحمة وعلما.

( عزما ) : رأيا معزوما عليه.

( عشير ) : صاحب.

( على عروشها ) : قد قدمنا أن المراد به السقف حيثما وقع. وعرش الله أعظم المخلوقات، ونسبة السماوات والأرض إليه كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، ويحمله الأملاك على كواهلهم، ذاكرين الباقيات الصالحات، وإلا لعجزوا عن حمله.

( عذاب يوم عقيم ) : يعني يوم بدر. ووصفه بالعقيم، لأنه [ ص: 603 ] لا ليلة بعده ولا يوم، لأنهم يقتلون فيه.

وقيل هو يوم القيامة، والساعة مقدماته. ويقوي ذلك قوله: الملك يومئذ لله . ثم قسم الناس إلى أصحاب الجحيم وأصحاب السعير.

( على أعقابكم تنكصون ) ، أي ترجعون إلى وراء. والضمير راجع إلى المترفين، وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات، وهي القرآن.

( عن الصراط لناكبون ) ، أي عادلون.

ويحتمل أن يكون صراط الدنيا، وهو المقصود الموصل إلى الصراط الحسي.

( عدد سنين ) : يعني في جوف الأرض أمواتا. وقيل أحياء في الدنيا. ويقال ذلك لأهل النار على وجه الاستهزاء والسخرية، فيجيبون بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم، لاستقصار المدة، ولما هم فيه من العذاب بحيث لا يعدون شيئا، فيقال لهم: اسأل العادين . ويعنون به من يقدر أن يعد، وهو من عوفي مما ابتلوا به، ويعنون الملائكة.

( عبثا ) ، أي باطلا. والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب.

( عذابها كان غراما ) ، أي هلاكا وخسرانا. وقيل ملازما.

ويحتمل أن يكون هذا من كلام أهل النار، أو من كلام الله عز وجل.

( عبدت بني إسرائيل ) ، أي ذللتهم واتخذتهم عبيدا. ومعنى هذا الكلام أنك عددت نعمة علي تعبيد بني إسرائيل، وليست في الحقيقة بنعمة، إنما هي نقمة، لأنك كنت تذبح أبناءهم، فلذلك وصلت أنا إليك فربيتني، فالإشارة بقوله: " تلك " إلى التربية، و أن عبدت في موضع رفع عطف بيان على " تلك " ، أو في موضع نصب، على أنه مفعول من أجله. [ ص: 604 ] وقيل معنى الكلام تربيتك نعمة علي، لأنك عبدت بني إسرائيل. وتركتني، ففي المعنى الأول إنكار لنعمته، وفي الثاني اعتراف بها.

( عورات لكم ) : معنى العورة الانكشاف فيما يكره كشفه، ولذلك قيل عورة الإنسان، وهي ما بين السرة إلى الركبة، وضمير خطاب الجمع يعود على جواز الانكشاف في غير هذه الأوقات الثلاثة، وهي قبل الصبح، وحين القائلة وسط النهار، وبعد صلاة العشاء الآخرة.

وقد قدمنا في حرف الثاء أن هذه الآية محكمة، وقول المستأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الانصراف واحتجاجه: إن بيوتنا عورة - فمعناه منكشفة للعدو، وخالية، وقيل خالية للسراق، فكذبهم الله في ذلك بقوله: إن يريدون إلا فرارا منك يا محمد.

( عراء ) : الأرض التي لا شجر فيها ولا ظل. وقيل يعني الساحل.

( على شريعة من الأمر ) ، أي على ملة ودين.

( عارضا مستقبل أوديتهم ) : قد قدمنا أن العارض السحاب، والضمير يعود على قوم عاد، فلما رأوا هذا العارض ظنوا أنه مطر، ففرحوا به، فقال لهم هود: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها - عموم يراد به الخصوص.

( عرفها لهم ) : الضمير يعود على أهل الجنة، يعني أن الله عرفهم منازلهم فيها، فهو من المعرفة، ولذلك صح في الحديث: "إن أحدهم أعرف بمنزله فيها من معرفته بمنزله في الدنيا". وقيل : إن الله طيبها لهم، فهو من العرف، وهو طيب الرائحة. وقيل معناه شرفها ورفعها، فهو من الأعراف التي هي الجبال.

( عاصف ) : ريح شديدة. والعصف ورق الزرع. وقيل التبن والريحان. وقيل هو الريحان المعروف. وقيل كل مشموم طيب الريح من النبات. [ ص: 605 ] " عبقري " : منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي وهي خبرة، وهو الممدوح من الرجال والفرش. وتزعم العرب أنه بلد الجان، فإذا أعجبها شيء نسبته إليه. والمعنى أن الله وصف طنافس أهل الجنة وزرابيهم ونسبها إلى عبقر. وفي الحديث في نزع عمر: فلم أر عبقريا يفري فريه.

( عتت عن أمر ربها ) ، أي تكبروا وتجبروا. والضمير يعود على القرية، والمراد أهلها، وكذلك: فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا .

وهذا كله في الدنيا، لأنه قال بعده: أعد الله لهم عذابا شديدا . ولأن قوله: فحاسبناها وعذبناها - بلفظ الماضي، فهو حقيقة فيما وقع، مجاز فيما لم يقع. ومعنى " حاسبناها " ، أي وأخذناهم بجميع ذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها، والعذاب هو عقابهم في الدنيا. والنكر هو الشديد الذي لم يعهد مثله.

فاشكر الله يا محمدي على أن عقوبتك إنما هي في الدنيا إذا لم تتب من الذنب ولم تستغفر - بالآلام والأمراض والأسقام، ولا يجمع عليك عقوبتين، وإن استغفرت فتكتب لك حسنات.

( علا في الأرض ) ، يعلو: تكبر، ومنه: قوما عالين . والعلي اسم الله، والمتعالي والأعلى من العلاء، بمعنى الجلال والعظمة.

وقيل بمعنى التنزيه عما لا يليق به.

( عزب ) الشيء: غاب. ومنه: وما يعزب عن ربك ، أي لا يخفى عنه.

( عبس وبسر ) : البسور: تقطيب الوجه، وهو أشد من العبوس. والمراد بهذا الوصف الوليد بن المغيرة لما حسد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يدر ما يقول فيه، وضاقت عليه الحيل عبس في وجهه، وقال لما قال له: إن قريشا قد [ ص: 606 ] أبغضتك لمقاربتك لحمد، ففكر في نفسه، وقال: أقول فيه قولا يرضيهم. فقال: أقول في القرآن شعر، ما هو بشعر. أقول كاهن، ما هو بكاهن. أقول سحر، وإنه قول البشر غير منزل من عند الله.

عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا . أي حيث شاءوا من منازلهم تفجيرا سهلا، لا يصعب عليهم. وفي الأثر: إن في قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة عينا تتفجر إلى قصور الأنبياء والمؤمنين على قدر اتباعهم له. وكيف لا وهو منبع الخير الدنيوي والأخروي، وجميع علومهم متفجرة من علمه - صلى الله عليه وسلم -، وهل نال جميع الموجودات من الخيرات إلا من فيض جوده، أو هل خلق الله الجنة إلا من أجله، فيعطيها من شاء من خلقه. و عينا في الآية بدل من كافور، على القول بأن الخمر تمزج بالكافور. وبدل من موضع

( كأس ) على القول الآخر، كأنه قال: يشربون خمرا خمر عين. وقيل : هو مفعول بـ يشربون . وقيل منصوب بإضمار فعل.

قال ابن عطية: الباء زائدة، والمعنى يشربها. وهذا ضعيف، لأن الباء تزاد في مواضع ليس هذا محلها، وإنما هي كقولك: شربت الماء بالعسل، لأن العين المذكورة يمزج بها الكأس من الخمر.

فلتتأمل أيها الناظر إلى وصفهم بالعبودية وإضافتهم إلى الوصف العظيم. تعرف بذلك عظيم منزلتهم، ويشهد لذلك تشريف نبينا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: سبحان الذي أسرى بعبده ، ولم يقل بنبيه، لأن العبودية أشرف التحلية. وإذا تأملت وصف العبودية في القرآن لا تجدها إلا لمن يتصف بالطاعة. كقوله: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا . فما أحسنها من إضافة من محب لمحبوب، مرة أضافهم إلى الاسم العظيم، ومرة إلى الرحمة، وأعظم من هذا أنه أضاف العاصي إلى نفسه، بقوله: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ، كي لا يقدر إبليس أن يسلبه منه [ ص: 607 ] ولا يضره، فالذي أضافك إليه مع عصيانك أتراه لا يرزقك، أو إن رجعت إليه لا يقبلك، أو إن استغفرته لا يغفر لك، كلا، والله، بل يقبلك على ما فيك من العيوب، فسبحان من خلق الخلق ليرزقهم، ويظهر قدرته فيهم. ويميتهم ليظهر قهره، ويحييهم ليظهر جلالته، ويدخلهم جنته ليظهر فضله، ويعذبهم ليظهر عدله فيهم ونقمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون

( عطاء حسابا ) : أي كافيا، من أحسبه الشيء إذا كفاه. وقيل معناه على حسب أعمالهم. ويقال أصل هذا أن تعطيه حتى يقول حسبي حسبي، فهناك أعطاهم بغير حساب.

وفي موضع قال: وكفى بنا حاسبين . وهم العاملون بالفضل. وفي موضع قال: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . وهم من أراد الله أن يعاملهم بالعدل.

( عسعس ) : من الأضداد. ويقال عسعس الليل: أقبل ظلامه في أوله، وقيل في آخره. وهذا أرجح، لأن آخر الليل أفضله، ولأنه أعقبه بقوله: والصبح إذا تنفس ، أي استطار واتسع ضوءه.

( ( عدلك ) ) ، بتشديد الدال: قوم خلقك، وبالتخفيف: صرفك إلى ما يشاء من الصورة في الحسن والقبح، والطول والقصر، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك، من اختلاف الصور.

وبالجملة فابن آدم من أكرم المخلوقات في تعديل صورهم في أيديهم، والمشي على أرجلهم، وانتصاب قامتهم، وتركيب أجسادهم، والعلم والعقل، والأكل باليمين، وستر العورة، واللباس، والرجال باللحى، والنساء بالذوائب.

فتأمل يا ابن آدم في هذه الكرامات التي أكرمك بها، وأضافك بالكرامة إليه، في قوله: ما غرك بربك الكريم . وإلى رسوله في قوله: إنه لقول رسول كريم . وإلى كلامه في قوله: إنه لقرآن كريم . وإلى مدخل رحمته: وندخلكم مدخلا كريما . وإلى تفصيل [ ص: 608 ] أعضائك من عظم ولحم، ومخ وعصب وعروق ودم، وجلد وظفر وشعر، كل واحد منها لحكمة، لولاها لم يكن الجسد بحسب العادة، فالعظائم منها هي عمود الجسد، فضم بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال من العضلات والعصب - ربطت بها، ولم يجعلها عظما واحدا، لأنك ترجع مثل الحجر، ومثل الخشبة، لا تتحرك، ولا تجلس ولا تقوم، ولا تركع ولا تسجد لخالقك، وجعل العصب على مقدار مخصوص، ولو كان أقواها هو لم تصح عادة حركة الجسم، ولا تصرفه في منافعه، ثم خلق الله تعالى المخ في العظام في غاية الرطوبة، ليرطب يبس العظام وشدتها، ولتقوى العظام برطوبته، ولولا ذلك لضعفت قوتها، وانخرم نظام الجسم لضعفها بحسب مجرى العادة. ثم خلق اللحم، وعبأه على العظم، وسد به خلل الجسد كله، فصار مستويا لحمة واحدة، واعتدلت هيئة الجسد به، واستوت.

تم خلق العروق في جميع الجسد جداول لجريان الغذاء فيها إلى أركان الجسد. لكل موضع من الجسد عدد معلوم من العروق صغارا وكبارا، ليأخذ الصغير من الغذاء حاجته والكبير حاجته. ولو كانت أكثر مما هو عليه أو انقص، أو على غير ما هي عليه من الترتيب - ما صح من الجسد بحسب العادة شيء. ثم أجرى الدم في العروق سيالا خاثرا، ولو كان يابسا أو أكثف مما هو عليه لم يجر في العروق. ولو كان ألطف مما هو عليه لم تتغذ به الأعضاء. ثم كسا اللحم بالجلد، ليستره كله، كالوعاء له. ولولا ذلك لكان قشرا أحمر. وفي ذلك هلاكه. تم كساه الشعر وقاية للجلد وزينة في بعض المواضع. وما لم يكن فيه الشعر جعل له اللباس عوضا منه، وجعل أصوله مغروزة في اللحم ليتم الانتفاع ببقائه ولين أصوله، ولم يجعلها يابسة مثل رؤوس الإبر، إذ لو كانت كذلك لم يهنه عيش.

وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين، ولولا ذلك لأهلكها الغبار والسقط. وجعلها على وجه يتمكن بسهولة من رفعها على الناظر عند قصد النظر، ومن [ ص: 609 ] إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تؤذى برؤيته دينا أو دنيا، ولم يجعل شعرها طبقا واحدا لينظر من خللها.

ثم خلق شفتين ينطبقان على الفم يصونان الفم والحلق من الرياح والغبار. وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح. ولما فيهما أيضا من كمال الزينة وغيرها.

ثم خلق بعدها الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطحنه. وجعل اللسان الذي يجمع به ما تفرى من المأكول في أرجاء الفم، ليتمكن تسهيله للابتلاع بطحن الأرحاء، وخلق فيه معنى الذوق لكل مأكول ومشروب. ولم يخلق جل وعلا الأسنان في أول الخلقة لئلا يضر بأمه في حال رضاعه بالعض، ولأنه لا يحتاج إليها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية التي تفتقر إلى الأسنان، فلما كبر وترعرع وصلح للغذاء خلق له الأسنان، وجعلها نوعين: بعضها محددة الأطراف، وهي التي للقطع، يقطع بها المأكول، وبعضها بسيطة وهي التي للطحن، فسبحانه! ما أكثر عجائب صنعه، وأوسع الآيات الدالة عليه! ولكن لا نبصر شيئا إلا بتوفيق الله تعالى.

ثم لما كان المأكول شديدا كثيفا، ولم يكن مجرى في الفم إلى الحلق - وهو كذلك على يبسه - أنبع الله تعالى في الفم عينا نباعة على الدوام أحلى من كل حلو، وأعذب من كل عذب، فيحرك اللسان الغذاء، ويمزجه بذلك الماء، فيعود زلقا، فينحدر في الحلق بلا مؤونة، ولهذا إذا أبدل الله تعالى تلك العين جفوفا من المرض لم يمض على الحلق شيء، وإن مضى فبمشقة عظيمة، ومن عجيب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم في كل وقت حتى يتكلف الإنسان مؤونة عظيمة في طرح ذلك عنه. جرت على وجه الحكمة فيه أن تعدد أوجه منفعتها، فتبارك الله أحسن الخالقين .

ثم خلق أظفار اليدين والرجلين، لتشتد بها أطرافها، لكثرة حركتها. والتصرف بها في الأمور، وليحك بها، وينتفع في موضع الحاجة. [ ص: 610 ] وانظر إلى خلق الأصابع، وجعلها مفرقة ذات مفاصل، ليتمكن بذلك من قبضها وبسطها بحسب الحاجة.

ولما كان الشعر والظفر مما يطول لما في طولها من الصالح لبعض الناس، وفي بعض الأوقات، وكان جزها مما يحتاج إليه في بعض الأوقات، لم يجعلها كسائر الأعضاء في تألم الإنسان بقطعها.

فانظر إلى دقائق هذا الصنع الجليل، وحسن المعاني من رب جميل لجميع الحيوان، وخص هذا الآدمي بخصائص وحكم يعجز ذكرها. وقد أشرنا إلى بعضها، وقد ذكر أهل التشريح تفصيلها.

وبالجملة فهذا الآدمي هو العالم الأكبر، وجميع المخلوقات هو العالم الأصغر، وكيف لا وقد جمع الله فيه ما تفرق في كل الأشياء، فإن كان للسماء علو فللآدمي القامة. وإن كان في الفلك شمس وقمر فللآدمي العينان. وإن كان له نجوم فللآدمي الأسنان. وإن كان للفلك الدوران فللآدمي السير. وإن كان للسماء القطر فلعين الآدمي الدمعة. وإن كان للبرق لمعة فللآدمي اللمحة. وإن كان للأرض الزلزلة فلنفس الآدمي الرعدة. وإن كان للأرض القرار فللآدمي السكون والوقار. وإن كان في الأرض الأنهار فللآدمي العروق. وإن كان للأرض النبات والأشجار فلنفس الآدمي الشعور. وإن كان في السماء العرش فهمة المؤمن أعلى وأعظم، وهي متعلقة بالمولى. وإن كان في السماء الجنة فللمؤمن القلب، وهو أزين منها، لأن الجنة محل الشهوة، والقلب محل المعرفة، وخازن الجنة رضوان وخازن قلب المؤمن الرحمن. "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". وفي رواية:" القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء".

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، وأعنها على عبادتك، وهب لها أرواحا تقودها إلى مشاهدتك، فإنك قلت: والسابقون السابقون أولئك المقربون فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، وأعذنا من أرواح أصحاب المشأمة. [ ص: 611 ] قال بعضهم: للمؤمنين أربعة أرواح: روح الإيمان، وبها عبدوا الله ووحدوه. وروح القوة، وبها جاهدوا أعداء الله. وروح الشهوة، وبها أصابوا لذة المطعم والمشرب والتمتع. وروح الحياة، وبها تحركوا إلى الطلبات.

وأما أصحاب المشأمة فبروح الحياة استعانوا على طول الأمل، وبروح القوة على المعصية، وبروح الشهوة على أخذ الحرام والشبهة، فلذلك شبههم بالأنعام فقال: إن هم إلا كالأنعام .

وقال آخر: إن كان في العالم سبع سموات فللآدمي سبعة أعضاء، وأمر أن يسجد عليها: اليدين، والرجلين، والركبتين، والوجه. وإن كان في العالم الحيوان فللآدمي القمل والبراغيث والصئبان. وإن كان للعالم شمس فللآدمي المعرفة أنور منها والعلم. وفي العالم النجوم وفي الآدمي العلوم. وفي العالم الطيور وفي الآدمي الخواطر. وفي العالم جبال وفي الآدمي العظام. وفي العالم أربع مياه: عذب، ومنتن، ومر، ومالح. وفي الآدمي العذب في فمه، والمر في أذنيه، والمالح في عينيه، والمنتن في أنفه.

فتفكر يا ابن آدم كيف خلقك وصورك على سبعة أعضاء، وسبعين مفصلا. ومائة وثمانية وأربعين عظما، وثلاثمائة وستين عرقا، ومائة ألف وأربعة وعشرين ألف شعرة، حياتها بروح واحدة. وجميع الأجناس المختلفون خالقهم العزيز الجبار.

( عين آنية ) : قد قدمنا أنها شديدة الحر، ووزن آنية هنا فاعلة، بخلاف "آنية من فضة" فإن وزنها أفعلة.

( عالية ) : نعت للجنة، لكن يحتمل أن تكون من علو المكان، أو من علو المقدار، أو الوجهين.

( عين جارية ) : يحتمل أن يريد جنس العيون، أو واحدة شرفها بالتعيين. [ ص: 612 ] علينا للهدى ، أي بيان الخير والشر. وليس المراد الإرشاد عند الأشعرية، خلافا للمعتزلة

( عائلا فأغنى ) : يقال عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجا، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله، وهذا الفقر والغنى هو في المال، وغناه عليه السلام هو أن أعطاه الله الكفاف. وقيل : هو رضاه بما أعطاه الله.

وقيل : المعنى وجدك فقيرا إليه فأغناك به.

( علق ) : جمع علقة، وهي النطفة من الدم، يخلق منها الإنسان. وإنما جمع العلق في سورة اقرأ، لأنه أراد الجماعة، بخلاف قوله: فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ، لأنه أراد كل واحد على حدته، ولم يدخل آدم في الإنسان هنا. لأنه لم يخلق من علقة، وإنما خلق من طين.

فليتأمل العاقل خلقته من علقة في رحم مغمومة من دم حيض، فلما كبر وترعرع صار يخاصم مولاه، كما قال تعالى: فإذا هو خصيم مبين .

( علم بالقلم ) : هذا تفسير للأكرم المذكور قبله، فدل بهذا على أن نعمة التعلم أكبر نعمة. وخص من التعليمات الكتابة بالقلم، لما فيها من تخليد العلوم، ومصالح الدنيا والدين. وقرأ ابن الزبير علم الخط بالقلم.

يا معاشر العلماء، قد كتبتم ودرستم، ولو ناقشكم بالمحاسبة لأفلستم، ما يكون جوابكم إذا قال لكم: يا أمة أحمد، قد كرمتم وفضلتم، وأعطيتكم ما لم أعطه أمة قبلكم، وشرفتكم بما شرفت به الأنبياء. أما سمعتم ما قلت لنوح: اهبط بسلام منا . ولكم: وسلام على عباده الذين اصطفى . وقلت لإبراهيم: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، ولكم: ثم ننجي الذين اتقوا . وأعطيت العصا لموسى. ولكم قلت: وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم [ ص: 613 ] وأحييت على يد عيسى الموتى، وقلت لكم: أومن كان ميتا فأحييناه . وأعطيت الملك لسليمان، وأعطيتكم الملك، وخصوصا الملك الكبير. وأحضرت العرش على يد آصف وأزلفت الجنة لكم. ولئن بشرت يعقوب بريح القميص فقد قلت لكم: فروح وريحان وجنت نعيم . فبأي عمل تدخلوها، وبأي نية نويتموها، علمتكم ما لم تعلموا، وخاطبتكم بما تفهمون، واستملت قلوبكم لتأنسوا، فلم تزيدوا إلا بعدا، ودعوتكم لدار كرامتي فأعرضتم عنها، فلا إلي تقربتم، ولا لها أردتم، ولا بها تلذذتم. أما علمتم أنكم لا تدعون لدياركم إلا من تحبون أن تطعموه، ولا تنسبون إلى أنفسكم إلا من تريدون أن تكرموه. أما سمعتم قولي: والله يدعو إلى دار السلام يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ، فلم تقاعستم؟؟!!! اللهم إنك أنعمت علينا بنعم لا تحصى، وأعظمها الخط بالقلم، وعلمتنا ما لم نكن نعلم، فجعلناها سلما لمعاصيك، فحلمت عنا، ولم تعاجلنا بالعقوبة فضلا منك علينا، فأنى لنا بجوابك عند العرض عليك، والوقوف بين يديك، إلا قولنا لك: غرنا حلمك وكرمك، فأتمم علينا جودك وإحسانك، وقولك لعبدك: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، وإن لم يقع منك ذلك فقيض نبينا وحبيبنا للشفاعة، فإنك أخبرتنا على لسانه الصادق المصدق، أن شفاعته لأهل الكبائر من أمته، ونحن من أمته المؤمنون به المصلون عليه. عليه الصلاة والسلام، يا سيد الخلق، ها أنا أتوسل بك إلى ربي في غفران ذنوبي.

( علم الإنسان ما لم يعلم ) : يعني العلوم على الإطلاق، أو علم الكتابة بالقلم. وعلى هذا فالإنسان نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: وعلمك ما لم تكن تعلم . وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكتب ولم يقرأ.

( عصر ) : دهر، أقسم الله به في كتابه، لكن اختلف ما المراد به، فقيل صلاة العصر، أقسم الله بها لفضلها، ولذا ورد في الحديث: "من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله". أي خسرهما. [ ص: 614 ] وقيل إنه العشي، أقسم به كما أقسم بالضحى، ويؤيد هذا قول أبي بن كعب: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العصر، فقال: أقسم ربكم بآخر النهار.

( على الأفئدة ) : يعني أن النار تبلغ القلوب بإحراقها. قال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى أنها تطلع ما في القلوب من العقائد والنيات بإطلاع الله إياها.

( عن صلاتهم ساهون ) : هو تركها بالكلية، وهذا كقوله تعالى: أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات . وقيل هم الذين يؤخرونها عن وقتها تهاونا بها، كما ورد في الحديث. وكذلك قالت عائشة رضي الله عنها: والله ما ضيعوها، وإنما أخروها عن وقتها المختار.

( عدوان ) : ظلم وتعد حيثما وقع. وقوله: فلا عدوان إلا على الظالمين ، أي فلا جزاء ظلم إلا على ظالم، تسمية لعقوبته باسم ذنبه.

( عرفات ) : اسم علم للموقف. سمي بذلك لتعارف الناس به. والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر، لا تنوين صرف، فإن فيه التعريف والتأنيث. وقيل : إنما سمي به لأن آدم عرف فيه حواء.

( عرج ) : يعرج - بفتح الراء في الماضي وضمها في المضارع: صعد وارتقى. ومنه: المعارج . وعرج بالكسر في الماضي والفتح في المضارع: صار أعرج.

( عرضة لأيمانكم ) ، أي لا تكثروا الحلف به فتبتذلوا اسمه. ويقال هذا عرضة لك، أي عدة لك.

( ( عقود ) ) : ما عقده المرء على نفسه مع غيره من بيع ونكاح وعتق وشبه ذلك. وقيل : ما عقده مع ربه من الطاعات، كالحج والصيام وشبه ذلك. [ ص: 615 ] وقيل : ما عقده الله على عباده من التحليل والتحريم في دينه. ويجب الوفاء بكل ذلك كما وصى بذلك في غير ما موضع.

( عرف ) : هو أفعال الخير. وقيل العرف الجاري بين الناس من العوائد. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد.

( عصبة ) ، أي جماعة من العشرة، ومراد إخوة يوسف بهذا القدرة على النفع، وأنهم لا يقاومون اطمئنانا لأبيهم.

( عقبى الدار ) ، أي عاقبة. وعاقب له معنيان: من العقوبة على الذنب، ومن العقبى. ومنه: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم ، أي أصبتم عقبى.

( عين ) : له في القرآن معنيان: العين المبصرة، وعين الماء: وله في غير القرآن معان كثيرة.

( عتيا ) ، وعسيا وعسوا بمعنى واحد، وهو يبس في الأعضاء والمفاصل.

وقيل مبالغة في الكبر.

عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا : هذا كلام أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله. والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف، أي عسى أن يؤتين الله من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوءتي من خبر أصحاب الكهف. واللفظ يقتضي أن المعنى عسى أن يوفقني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرشد من خبر أصحاب الكهف وأقرب إلى الله. وقيل : إن الإشارة إلى المنسي، أي إذا نسيت شيئا فقل عسى أن يهدين الله لشيء آخر هو أرشد من المنسي.

( عقدة ) ، أي حبسة، والمراد بها الرتة التي كانت في لسان موسى من الجمرة التي جعلها في فيه، وهو صغير، حين أراد فرعون أن يجربه. وإنما قال: عقدة - بالتنكير، لأنه طلب حل بعضها ليفقه قوله، ولم يطلب الفصاحة الكاملة. [ ص: 616 ] عجاب ، وعجيب بمعنى واحد، وهو قول الكفار الذين تعجبوا من التوحيد ولم يتعجبوا من الكفر الذي لا وجه لصحته.

وروي أن المسلمين فرحوا بإسلام عمر، وتغير المشركون لذلك، فاجتمعوا ومشوا إلى أبي طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء منا، وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: " ماذا تسألونني، فقالوا، ارفض آلهتنا وارفضنا وندعك وإلهك ". فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، " قالوا: نعم وعشرا، أي نعطيكها وعشر كلمات معها. فقال: قولوا لا إله إلا الله. فقاموا، وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ، أي بليغ في العجب.

( عربا ) : جمع عروب، وهي المتوددة إلى زوجها بإظهار محبتها، وعبر عنهن ابن عباس بأنهن العواشق. وقيل هن الحسنة الكلام.

( عتل ) ، أي غليظ الجسم، قاسي القلب، بعيد الفهم، كثير الجهل.

( ( عتبى ) ) : معناه الرضا، ومنه: فما هم من المعتبين ولا هم يستعتبون . والعتاب: العذاب.

( عبرة ) : اعتبارا وموعظة حيثما وقع.

( عيدا ) : كل يوم مجمع، ولذا طلب عيسى المائدة أن تكون تنزل عليهم كل يوم عيد. وقال ابن عباس: المعنى تكون مجتمعة لجميعنا أولنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة، لا عيدا يدور، وإنما سمي عيدا لعوده بالفرح والسرور على قوم وعلى قوم بالحزن، وكذلك المأتم، سمي بذلك، لأنه لم يتم لأحد فيه أمر. [ ص: 617 ] " عيسى ابن مريم " : قد قدمنا سر الإفصاح بأمه، ولم يسم امرأة في القرآن غيرها، وذلك لنفي التهمة، لأن العادة بين الخلق ألا يصرح الرجل باسم امرأته، فسماها الله باسمها كي لا يظن ظان أنها زوجته، وخلقه الله بغير أب. وكلم الناس في المهد ككلامه في حال الكهولة، وعلمه التوراة في بطن أمه، وأحيا الموتى على يديه، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأكرمه الله بالزهد في الدنيا حيث لم يتخذ من الدنيا شيئا، ولهذا قال عليه السلام: "من أراد أن ينظر إلى زهد عيسى فلينظر إلى زهد أبي ذر". وعلمه الخط الجيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: الخط عشرة أجزاء:

أحدها لجميع الخلق وتسعة لعيسى ابن مريم خاصة.
وكانت مدة حمله ساعة. وقيل ثلاث ساعات. وحملت به وهي بنت عشر سنين. وقيل بنت خمس عشرة سنة. ورفعه الله إلى السماء، وله ثلاث وثلاثون سنة. ونؤمن بنزوله في آخر الزمان، ويقتل الدجال.

وفي مسند أحمد من حديث جابر: يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم فله أربعون ليلة يسيحها في الأرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا فيقول للناس أنا ربكم وهو أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر ك ف ر مهجاة يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب يرد كل ماء ومنهل إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه وقامت الملائكة بأبوابها ومعه جبال من خبز والناس في جهد إلا من تبعه ومعه نهران أنا أعلم بهما منه نهر يقول الجنة ونهر يقول النار فمن أدخل الذي يسميه الجنة فهو النار ومن أدخل الذي يسميه النار فهو الجنة.

قال ويبعث الله معه شياطين تكلم الناس ومعه فتنة عظيمة يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس ويقتل نفسا ثم يحييها فيما يرى الناس لا يسلط على غيرها من الناس ويقول أيها الناس هل يفعل مثل هذا إلا الرب عز وجل قال فيفر المسلمون إلى جبل الدخان بالشام فيأتيهم فيحاصرهم [ ص: 618 ] فيشتد حصارهم ويجهدهم جهدا شديدا ثم ينزل عيسى ابن مريم فينادي من السحر فيقول يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث فيقولون هذا رجل جني فينطلقون فإذا هم بعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فتقام الصلاة فيقال له تقدم يا روح الله فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم فإذا صلى صلاة الصبح خرجوا إليه قال فحين يرى الكذاب ينماث كما ينماث الملح .في الماء فيمشي إليه فيقتله حتى إن الشجرة والحجر ينادي يا روح الله هذا يهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحدا إلا قتله.


وفي الصحيح أحاديث بمعنى ذلك. وفي أحاديث أنه يتزوج ويولد له الولد، ويمكث في الأرض سبع سنين، ويدفن معه - صلى الله عليه وسلم -.

وفي الصحيح أنه ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني حماما.

وعيسى اسم عبراني أو سرياني، وهو أحد الأربعة الذين سماهم الله قبل وجودهم.

فإن قلت: قد اختاره الله لإقامة دينه، وخصه بما لم يخص به أحد غيره، فلم لا يتقدم للصلاة بهذه الأمة، وما الحكمة في تمثيل الله له بآدم، ولم خلق من غير أب؟

والجواب أن الله ينزله لتجديد الشريعة المحمدية، فلو أم بهم لظنوا أنه أتى بشريعته المتقدمة، فنفى توهم ذلك بقوله: ليتقدم إمامكم.

وأما تمثيل الله له بآدم فلأن بقاء آدم بالتراب وبقاء النفس بالريح، والتراب طيب والريح طيبة، والتراب يميز الخبيث من الطيب، والريح تميز الحب من التبن، والريح رحمة والأرض رحمة، والأرض مسخرة، قال تعالى: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا . والريح مسخرة، والأرض مختلفة: خبيث وطيب، وحزن وسهل، والريح مختلفة منها لواقح وصرصر، وصبا وشمال، ودبور وجنب، والتراب يطفئ النار، والريح أيضا يطفئها. وكما مثل الله عيسى بآدم مثل الدنيا بماء السماء، قال تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء . [ ص: 619 ] في أن كثرته يضر، وقلته ينفع. ومثل المنفق بالزرع، قال تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم . ومثل عابد الأصنام بالعنكبوت، قال تعالى: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت ، في ضعف نسجها. ومثل أعمال المنافقين بالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ومثل أهل الكتاب بالحمار، في قوله: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا . ومثل بلعام بالكلب، قال تعالى: فمثله كمثل الكلب . وشبه التوحيد بشجرة النخلة، قال تعالى: كشجرة طيبة . والكفر بشجرة الدفلى كما قدمنا. ومثل آدم بالتراب.

وخلق الله عيسى من غير أب، ليكون دليلا على ثبوت الصانع. وذلك أنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق عيسى من غير أب، وخلقك من أب وأم، ليكون دليلا على وحدانيته، وكمال قدرته، وبطلان الطبع والنجوم.

( عوجا ) : اعوجاج حيثما وقع بكسر العين في المعاني التي لا تحس، وبالفتح في الأشخاص ونحوها. ومعناه عدم الاستقامة، ومعناه في قوله: ولم يجعل له عوجا قيما . الذي لا تناقض فيه، ولا خلل فيه،

وقيل لم يجعله مخلوقا. واللفظ أعم من ذلك.

( ( عدوة ) ) ، بكسر العين وضمها: شاطئ الوادي. والمراد بالدنيا في قوله: إذ أنتم بالعدوة الدنيا : القريبة من المدينة. والعدوة القصوى البعيدة. والقصوى والدنيا تأنيث الأقصى والأدنى.

( عير ) : رفقة،

وقيل إبل تحمل الميرة. عجاف : قد بلغت في الهزل النهاية، وكان الملك قد رأى في نومه سبع بقرات سمان أكلتهن سبع عجاف، فتعجب كيف غلبتهن، وكيف وسعتها في بطونهن.

( عضين ) : قد قدمنا أن معناه أجزاء، ومفرده عضه. [ ص: 620 ] والعاضه الساحر، قال عكرمة: العضة: السحر - بلغة قريش. يقولون للساحرة: عاضهة، ويقال عضهوه آمنوا بما أحبوا منه، وكفروا بالباقي، فأحبط كفرهم إيمانهم.

( عجلا جسدا ) : ولد البقرة، والجمع العجاجيل، والأنثى عجلة، وبقرة معجلة: ذات عجل. قيل سمي عجلا لاستعجال بني إسرائيل عبادته، وكانت مدة عبادتهم له أربعون يوما، فعوقبوا في التيه أربعين سنة كل يوم بسنة، وكان السامري من قوم يعبدون البقر، واسمه موسى بن ظفر، وكان جسدا لا يأكل ولا يشرب.

ونقل القرطبي عن أبي بكر الطرطوشي رحمهما الله أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان يقرءون القرآن، ثم ينشد لهم منشد شيئا من الشعر، فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة، هل الحضور معهم حلال أم لا، فقال: مذهب الصوفية أن هذا بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حوله، ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، وإنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير مع الوقار.

فينبغي للسلطان مع نوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد من أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.

وقال القشيري: كان إبراهيم عليه السلام مضيافا، وكان عامة ماله البقر. وقدم العجل للملائكة، واختاره سمينا زيادة في إكرامهم.

وقيل : إن جبريل مسح العجل بجناحه، فقام مسرعا حتى لحق بأمه. ومما يحكى من محاسن القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن فريعة [ ص: 621 ] البغدادي، ووفاته سنة سبع وستين وثلاثمائة: أن العباس بن المعلى الكاتب كتب إليه: ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما؟

فكتب القاضي بديها: هذا من أعدل الشهود على أن الملاعين اليهود أشربوا حب العجل في صدورهم، حتى أخرج من أيورهم. وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية: الرأس مع الرجل، وأن يسحبا على الأرض، وينادى عليهما: ظلمات بعضها فوق بعض. والسلام.

وروي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة، فأتى بها الغيضة. وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فكبر الولد - وكان بارا بأمه، وكانت من أحسن البقر، فساوموها حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، وكانوا طلبوا البقرة التي أمرهم الله بذبحها أربعين سنة .

( عفريت من الجن ) : قد قدمنا أن اسمه الكودن، وهو القوي المارد من الشياطين، والفاء فيه زائدة. قال ابن عباس: هو صخر الجني. وقال ابن زيد: استدعاه ليريه القدرة التي هي من عند الله.

وروي أن هذا العرش الذي أمر سليمان بمجيئه كان من فضة وذهب مرصعا باليواقيت والجوهر، وأنه كان في جوفه سبع بيوت عليها سبعة أغلاق. قال ابن عباس: كان سليمان مهيبا لا يبدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فرأى ذات يوم رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا، فقالوا له: بلقيس. فقال: أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها ، فقال له العفريت: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك . وكان يجلس مجلس الحكم من الصباح إلى الظهر، فقال الذي عنده علم من الكتاب - وهو آصف بن برخيا، وكان رجلا صالحا من بني إسرائيل، كان يعلم اسم الله الأعظم. وقيل هو الخضر، وقيل جبريل. والأول أشهر: " أنا آتيك به " - في الموضعين - يحتمل أن يكون فعلا مستقلا، واسم فاعل - قبل أن يرتد إليك طرفك، أي قبل أن [ ص: 622 ] تغمض بصرك إذا نظرت إلى شيء. فدعا باسم الله العظيم الأعظم، وهو: يا حي، يا قيوم، يا إلهنا، وإله كل شيء، إلها واحدا لا إله إلا أنت. وقيل يا ذا الجلال والإكرام. فشقت الأرض بالعرش حتى نبع بين يدي سليمان. وقيل : جيء به في الهواء. وكان بين يدي سليمان والعرش مسيرة شهرين للمجد.

( فلما رآه مستقرا عنده ) ، جعل يشكر الله الذي أنعم عليه بعبارة فيها تعليم للناس وعرضة للاقتباس.

( عين ) ، بكسر العين: جمع عيناء، وهي الكبيرة العينين في جمال.

( عزة وشقاق ) ، أي تكبر وعداوة وقصد المخالفة، يعني أن كفرهم ليس ببرهان، بل هو بسبب العزة والشقاق، ونكرهما للدلالة على شدتهما وتفاقم الكفار فيهما.

( ( عصم الكوافر ) ) : جمع عصمة: النكاح، وأمر الله المسلمين في هذه الآية أن يفارقوا نساءهم المشركات من عبدة الأوثان، فالآية على هذا محكمة. وقيل : يعني كل كافرة، فعلى هذا نسخ منها جواز تزوج الكتابيات بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . وقيل إن قوله: ولا تمسكوا بعصم الكوافر . - نزلت في امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلقها.

( عزين ) : جمع عزة - بتخفيف الزاي، وأصله عزوة. وقيل عزهة، ثم حذفت الهاء وجمعت بالواو والنون عوضا من اللام المحذوفة.

( عشار ) : جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند العرب وأعزها، فلا تعطل إلا من شدة الهول. وتعطيلها هو تركها مسيبة أو ترك حلبها.

( عيشة راضية ) : قد قدمنا أن المراد بها ذات رضا، فهو كقولهم: تامر، لصاحب التمر. [ ص: 623 ] قال ابن عطية: ليست بذا اسم فاعل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون اسم فاعل، نسب الفعل إليها مجازا وهو لصاحبها حقيقة.

( على ) حرف جر له معان:

أشهرها: الاستعلاء حسا أو معنى، نحو: وعليها وعلى الفلك تحملون كل من عليها فان فضلنا بعضهم على بعض ولهم علي ذنب .

ثانيها: المصاحبة، كمع، نحو: وآتى المال على حبه ، أي مع حبه. وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم .

ثالثها: الابتداء كمن، نحو: إذا اكتالوا على الناس ، أي من الناس. لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم ، أي منهم، بدليل "احفظ عورتك إلا من زوجتك".

رابعها: التعليل، كاللام، نحو: ولتكبروا الله على ما هداكم ، أي لهدايته إياكم.

خامسها: الظرفية كـ في، نحو: ودخل المدينة على حين غفلة ، أي في حين غفلة. واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ، أي في زمن ملكه.

سادسها: معنى الباء، نحو: حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ، أي بأن أقول، كما قرأ أبي.

فائدة

هي في: وتوكل على الحي الذي لا يموت - بمعنى الإضافة والإسناد، أي أضف توكلك وأسنده إليه. كذا قيل. وعندي أنها بمعنى باء الاستعانة. وفي نحو: كتب على نفسه الرحمة - لتأكيد المجازات. قال بعضهم: وإذا ذكرت النعمة في الغالب مع الحمد لم تقترن بعلى، وإذا أريدت النقمة أتي بها. ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى مما يعجبه قال: "الحمد لله الذي بنعمته وجلاله تتم الصالحات". وإذا رأى ما يكره قال: "الحمد لله على كل حال". [ ص: 624 ]

تنبيه:

ترد " على " اسما فيما ذكره الأخفش إذا كان مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد، نحو: أمسك عليك زوجك ، لما تقدمت الإشارة إليه في " إلى " . وترد فعلا من العلو، نحو: إن فرعون علا في الأرض .

( عن ) حرف جر له معان:

أشهرها: المجاوزة، نحو: فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، أي يجاوزونه ويتعدون عنه.

ثانيها: البدل، نحو: لا تجزي نفس عن نفس شيئا .

ثالثها: التعليل، نحو: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه - أي لأجل موعدة.

( ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ) - أي لقولك.

رابعها: معنى على، نحو: فإنما يبخل عن نفسه - أي عليها.

خامسها: معنى من، نحو: يقبل التوبة عن عباده - أي منهم، بدليل: فتقبل من أحدهما .

سادسها: معنى بعد، نحو: يحرفون الكلم عن مواضعه ، بدليل أن في آية أخرى: من بعد مواضعه لتركبن طبقا عن طبق - أي حالة بعد حالة.

تنبيه:

ترد اسما إذا دخل عليها من، وجعل منه ابن هشام: ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم . قال: فتقدر معطوفة على مجرور من لا على من ومجرورها.

( عسى ) فعل جامد لا يتصرف، ومن ثم ادعى قوم أنه حرف، ومعناه الترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه. وقد اجتمعا في قوله: [ ص: 625 ] وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . قال ابن فارس: وتأتي للقرب والدنو، نحو: قل عسى أن يكون ردف لكم . قال الكسائي: كل ما في القرآن من عسى على وجه الخبر فهو موحد، نحو الآية السابقة، وواحد على معنى عسى الأمر أن يكون كذا. وما كان على الاستفهام فإنه يجمع، نحو: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض . قال أبو عبيدة: معناه هل عددتم ذلك.

وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس قال: كل عسى في القرآن فهي واجبة. وقال الشافعي: يقال عسى من الله واجبة.

وقال ابن الأنباري: عسى في القرآن واجبة إلا في موضعين: أحدهما: عسى ربكم أن يرحمكم - يعني يا بني النضير. فما رحمهم الله، بل قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوقع عليهم العقوبة.

والثاني: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن . فلم يقع التبديل. وأبطل بعضهم الاستثناء، وعمم القاعدة، لأن الرحمة كانت مشروطة بألا يعودوا كما قال: وإن عدتم عدنا . وقد عادوا فوجب عليهم العذاب، والتبديل مشروط بأن يطلق ولم يطلق. فلا يجب.

وفي الكشاف في سورة التحريم: عسى إطماع من الله لعباده وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون على ما جرت به العادة من الإجابة بلعل وعسى، ووقوع ذلك من الجبابرة موقع القطع والبت.

والثاني: أن يكون جيء به تعلما للعباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء.

وفي البرهان: عسى ولعل من الله واجبتان. وإن كانتا رجاء وطمعا في كلام المخلوقين، لأن الخلق هم الذين يعرض لهم الشكوك والظنون، والباري منزه عن ذلك. والوجه في استعمال هذه الألفاظ أن الأمور الممكنة لما كان الخلق يشكون [ ص: 626 ] ولا يقطعون على الكائن منها، والله يعلم الكائن منها على الصحة صارت لها نسبتان: نسبة إلى الله تعالى تسمى نسبة قطع ويقين، ونسبة إلى المخلوق تسمى نسبة شك وظن، فصارت هذه الألفاظ لذلك تارة ترد بلفظ القطع حسبما هي عليه عند الله نحو: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه . وتارة بلفظ الشك بحسب ما هي عليه عند الخلق، نحو: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ،

وقد علم الله حال إرسالها ما يفضي إليه حال فرعون، لكن ورد اللفظ بصورة ما يختلج في نفس موسى وهارون من الطمع والرجاء، ولما نزل القرآن بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك، والعرب قد تخرج الكلام المتيقن في صورة المشكوك لأغراض.

وقال ابن الدهان: عسى فعل ماضي اللفظ والمعنى، لأنه طمع قد حصل في شيء مستقبل. وقال قوم: ماضي اللفظ مستقبل المعنى، لأنه إخبار عن طمع يريد أن يقع.

تنبيه:

وردت في القرآن عسى على وجهين:

أحدهما رافعة لاسم صريح بعده فعل مضارع مقرون بأن. والأشهر في إعرابها حينئذ أنها فعل ناقص عامل عمل كان، فالمرفوع اسمها وما بعده الخبر. وقيل متعد بمنزلة قارب معنى وعملا، أو قاصر بمنزلة قرب، وأن يفعل بدل اشتمال من فاعلها.

الثاني أن يقع بعدها أن والفعل، فالمفهوم من كلامهم أنها حينئذ تامة. وقال ابن مالك: عندي أنها ناقصة أبدا، وأن وصلتها سدت مسد الجزأين كما في: أحسب الناس أن يتركوا . [ ص: 627 ]

( عند ) ظرف مكان تستعمل في الحضور والقرب، سواء كانا حسيين. نحو: فلما رآه مستقرا عنده عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى . أو معنويين نحو: قال الذي عنده علم من الكتاب وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار في مقعد صدق عند مليك مقتدر أحياء عند ربهم . ابن لي عندك بيتا في الجنة . فالمراد في هذه الآية قرب التشريف والمنزلة وطلب الجار قبل الدار.

ولا تستعمل إلا ظرفا أو مجرورة بمن خاصة، نحو: من عندك. ولما جاءهم رسول من عند الله . وتعاقبها لدى ولدن، نحو: لدى الحناجر ، لدى الباب وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم . وقد اجتمعتا في قوله تعالى آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

ولو جيء فيهما بعند أو لدن صح، ولكن ترك دفعا للتكرار، وإنما حسن تكرار لدى في: وما كنت لديهم ، لتباعد ما بينهما.

وتفارق عند ولدى " لدن " من ستة أوجه، فعند ولدى تصلح في محل ابتداء غاية وغيرها، ولا تصلح لدن إلا في ابتداء غاية.

وعند ولدى يكونان فضلة نحو: وعندنا كتاب حفيظ ولدينا كتاب ينطق بالحق . ولدن لا تكون فضلة.

وجر "لدن " بمن أكثر من نصبها، حتى إنها لم تجئ في القرآن منصوبة. وجر " عند " كثير. وجر " لدى " ممتنع.

وعند ولدى معربان، ولدن مبنية، في لغة الأكثرين. [ ص: 628 ] ولدن قد لا تضاف، وقد تضاف للجملة بخلافهما. وقال الراغب: لدن: أخص من عند وأبلغ، لأنه يدل على ابتدائها بالفعل.

وعند أمكن من لدن من وجهين: أنها تكون ظرفية للأعيان والمعاني بخلاف لدى، وعند تستعمل في الحاضر والغائب، ولا تستعمل لدى إلا في الحاضر. ذكرهما ابن الشجري وغيره.

التالي السابق


الخدمات العلمية