الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما الجهمية من المتفلسفة الصابئة فيقولون مع ذلك إن العالم أيضا قديم معه، مقارن له في الوجود، مقارنة المعلول لعلته التامة، والمتولد لمولده كتولد الصوت عن الحركة، والشعاع عن الشمس، ومع هذا يقولون إن الباري تعالى متقدم عليه بالغلبة وبالذات، أو بالطبع وبالشرف، وقد يقولون: العالم محدث بمعنى افتقاره إلى الصانع. وعند التحقيق فلا يثبتون له تقدما حقيقيا، كما أنهم وجهمية المتكلمين لا يثبتون له عليه علوا حقيقيا ومباينة معقولة، وذلك أن هؤلاء قالوا: التقدم والتأخر خمسة أنواع:

الأول: التقدم بالعلية كتقدم السراج، على ضوء السراج / وتقدم الشمس على شعاعها؛ فإن العقل يدرك [تقدم] وجود السراج على [ضوء] السراج، وإن امتنع تأخر أحدهما عن الآخر في الزمان.

[ ص: 189 ] الثاني: التقدم بالطبع، وهو تقدم الشرط على المشروط، مثل تقدم الواحد على الاثنين، والفرق بينه وبين ما قبله بعد اشتراكهما فالمتأخر لا يوجد إلا بعد وجود المتقدم؛ إذ العلة تستلزم وجود المعلول، والشرط لا يستلزم وجود المشروط.

الثالث: التقدم بالشرف والرتبة كتقديم العالم والقادر على الجاهل والعاجز.

الرابع: التقدم بالمكان كتقدم الإمام على المأموم.

وخامسها: التقدم بالزمان كتقدم الشيخ على الشاب ثم إنهم لما زعموا حصر التقدم في هذه الوجوه قالوا: نحن نقول بتقدم الباري على العالم بالوجوه الثلاثة الأول، والتقدم بالمكان ليس مما يتعلق بما نحن فيه، وأما التقدم بالزمان فممتنع، ولو كان ممكنا لكان مبطلا لقول منازعنا، وأما كونه [ ص: 190 ] ممتنعا فلأن تقدم الباري على العالم لو كان بالزمان لزم أن يكون الباري زمانا، والزمان زمانيا؛ أما الأول فلأن الزمان من لواحق التغير وذلك ممتنع على الباري، وأما الثاني فلامتناع التسلسل، وأما كونه مبطلا لقول منازعنا، فلأنه إذا كان تقدم الباري على العالم زمانيا، مع أن الله سبحانه لا بداية لتقدمه على العالم، لزم أن لا يكون للزمان بداية فيكون الزمان قديما، والزمان من العالم فلا يكون العالم محدثا، كما يقوله منازعنا، وقد يستدلون بهذه الحجة على امتناع كون العالم مسبوقا بالعدم، بأن تقدم العدم عليه لا يصح أن يكون بالوجوه الأربعة، ولو كان بالزمان لزم قدم الزمان. فهذا الكلام الذي قالوه قد موهوا به على الناس، حتى اضطرب هنا كثير من أذكياء العالم.

وقد أجاب عنه من أجاب من متكلمي الإسلام بإثبات تقدم آخر خارج عن هذه الأقسام الخمسة، وهو كتقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض، وتقدم الباري على الحوادث اليومية، وقد يسمي بعضهم –كالشهرستاني وغيره- هذا التقدم [ ص: 191 ] بالذات.

ولا ريب أن تقدم بعض أجزاء الزمان على بعض ليس بالعلية ولا بالشرط ولا بالشرف لامتناع تقارب أجزاء الزمان مع تقارب المتقدم والمتأخر بهذه الوجوه؛ ولأن أجزاء الزمان متماثلة. وليس أيضا بالزمان؛ لأنه يلزم أن يكون للزمان زمان، وأن يكون الباري زمانيا، قالوا: وإذا كان قد عقل تقدم الأمس على اليوم من غير حاجة إلى زمان آخر فكذلك يعقل تقدم العدم على الوجود، وتقدم الباري على الوجود، قالوا: وأنتم لا تقولون بهذا التقدم، لا تقولون إنه مسبوق موجود غيره، أو معدوم نفسه بهذا النوع من السبق والتقدم، وقد يقال: هذا الجواب - [ ص: 192 ] وإن كان فيه من إبطال كلام أولئك ما فيه -فلم يجيبوا عن الشبهة في الجواب؛ بل هذه معارضة.

التالي السابق


الخدمات العلمية