الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    108 - ( فصل )

                    في التسعير وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين : إحداهما : إذا كان للناس سعر غالب ، فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك ، فإنه يمنع من ذلك عند مالك . وهل يمنع من النقصان ؟ على قولين لهم . واحتج مالك رحمه الله بما رواه في موطئه " عن يونس بن يوسف عن سعيد بن المسيب : " أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة ، وهو يبيع زبيبا له بالسوق ، فقال له عمر : إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا " . [ ص: 214 ]

                    قال مالك : لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس : لرأيت أن يقال له : إما لحقت بسعر الناس ، وإما رفعت ، وأما أن يقول للناس كلهم يعني - لا تبيعوا إلا بسعر كذا - فليس ذلك بالصواب ، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الأبلة ، حين حط سعرهم لمنع البحر ، فكتب " خل بينهم وبين ذلك فإنما السعر بيد الله " .

                    قال ابن رشد في كتاب البيان " : أما الجلابون فلا خلاف في أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه ، وإنما يقال لمن شذ منهم ، فباع بأغلى مما يبيع به العامة : إما أن تبيع بما تبيع به العامة ، وإما أن ترفع من السوق ، كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة ، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له : " إما أن تزيد في السعر ، وإما أن ترفع من سوقنا " ; لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل مما كان يبيع به أهل السوق .

                    وأما أهل الحوانيت والأسواق ، الذين يشترون من الجلابين وغيرهم جملة ، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا ، مثل اللحم والأدم ، والفواكه ، فقيل : إنهم كالجلابين ، لا يسعر لهم شيء من بياعاتهم ، وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور : إما أن تبيع كما يبيع الناس ، وإما أن ترفع من السوق ، وهو قول مالك في هذه الرواية .

                    وممن روى عنه ذلك من السلف : عبد الله بن عمر ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله قيل : إنهم في هذا بخلاف الجالبين ، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على الناس ، ولم يقتنعوا من الربح بما يشبه .

                    وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترون به ، فيجعل لهم من الربح ما يشبه ، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك ، ويتفقد السوق أبدا ، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم ، فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق .

                    وهذا قول مالك في رواية أشهب ، وإليه ذهب ابن حبيب ، وقال به ابن المسيب ، ويحيى بن سعيد ، والليث ، وربيعة .

                    ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم : لا تبيعوا إلا بكذا وكذا ، ربحتم أو خسرتم ، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به ، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه : لا تبيعوه إلا بكذا وكذا ، مما هو مثل الثمن أو أقل .

                    وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون : لم يتركهم أن يغلوا في الشراء ، وإن لم يزيدوا في الربح على القدر الذي حد لهم ، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم .

                    وأما الشافعي : فإنه عارض في ذلك بما رواه عن الدراوردي عن داود بن صالح التمار ، عن القاسم بن محمد [ ص: 215 ] عن عمر رضي الله عنه : " أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى ، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب ، فسأله عن سعرهما ؟ فقال له : مدين لكل درهم ، فقال له عمر : قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيبا ، وهم يغترون بسعرك ، فإما أن ترفع في السعر ، وإما أن تدخل زبيبك البيت ، فتبيعه كيف شئت ، فلما رجع عمر حاسب نفسه ، ثم أتى حاطبا في داره ، فقال : إن الذي قلت لك ليس عزمة مني ، ولا قضاء ، إنما هو الشيء أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع ، وكيف شئت فبع " .

                    قال الشافعي : وهذا الحديث مستقصى .

                    وليس بخلاف لما رواه مالك ، ولكنه روي عن بعض الحديث ، أو رواه عنه من رواه ، وهذا أتى بأول الحديث وآخره ، وبه أقول ، لأن الناس مسلطون على أموالهم ، ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم ، وهذا ليس منها .

                    وعلى قول مالك : فقال أبو الوليد الباجي : الذي يؤمر به من حط عنه أن يلحق به : هو السعر الذي عليه جمهور الناس ، فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر : أمروا باللحاق بسعر الناس ، أو ترك البيع ، فإن زاد في السعر واحد ، أو عدد يسير : لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره ، لأن المراعى حال الجمهور ، وبه تقوم المبيعات .

                    وهل يقام من زاد في السوق - أي في قدر المبيع بالدراهم - كما يقام من نقص منه ؟ قال ابن القصار المالكي : اختلف أصحابنا في قول مالك : " ولكن من حط سعرا " ، فقال البغداديون : أراد من باع خمسة بدرهم ، والناس يبيعون ثمانية ، وقال قوم من البصريين : أراد من باع ثمانية ، والناس يبيعون خمسة ، فيفسد على أهل السوق بيعهم ، وربما أدى إلى الشغب والخصومة .

                    قال : وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان ; لأن من باع ثمانية - والناس يبيعون خمسة - أفسد على أهل السوق بيعهم ، وربما أدى إلى الشغب والخصومة ، فمنع الجميع مصلحة .

                    قال أبو الوليد : ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق .

                    وأما الجالب : ففي كتاب محمد : لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس ، وقال ابن حبيب : ما عدا القمح والشعير بسعر الناس وإلا رفعوا ، وأما جالب القمح والشعير : فيبيع كيف شاء ، إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق ، إن أرخص بعضهم تركوا ، وإن أرخص أكثرهم ، قيل لمن بقي : إما أن تبيعوا كبيعهم ، وإما أن ترفعوا .

                    قال ابن حبيب : وهذا في المكيل والموزون ، مأكولا كان أو غيره ، دون ما لا يكال ولا يوزن ، لأنه لا يمكن تسعيره ; لعدم التماثل فيه : [ ص: 216 ] قال أبو الوليد : هذا إذا كان المكيل والموزون متساويا ، فإذا اختلفا ، لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية