الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله أي لا تشتموهم ولا تذكروهم [ ص: 251 ] بالقبيح، والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها، والعائد حينئذ مقدر أي الذين تدعونهم

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير عنها بالذين مبني على زعمهم أنها من أهل العلم أو على تغليب العقلاء منها كالملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام، وقيل : إن سب الآلهة سب لهم؛ كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها فيسبوا الله عدوا تجاوزا عن الحق إلى الباطل، ونصبه على أنه حال مؤكدة. وجوز أبو البقاء أن يكون على أنه مفعول له، وأن يكون على المصدرية من غير لفظ الفعل، و (يسبوا) منصوب على جواب النهي، وقيل : مجزوم على العطف كقولهم : لا تمددها فتشققها

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى الله عليه وسلم ولمن يأمره، وقد فسر بغير علم بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله تعالى وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحا؛ ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ يحملهم على ذلك ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر

                                                                                                                                                                                                                                      ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام أكثر الرافضة سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما عنده فغاظه ذلك جدا فسب عليا كرم الله تعالى وجهه فسئل عن ذلك فقال : ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم، وقال الراغب : إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحا ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة ويزدادون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه، وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا؛ وهو سب فعلي قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      وما كان ذنب بني مالك بأن سب منهم غلاما فسب بأبيض     ذي شطب قاطع يقد العظام ويبري العصب

                                                                                                                                                                                                                                      ونبه به على ما قاله الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      ونشتم بالأفعال لا بالتكلم



                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد بسب الله تعالى سب الرسول صلى الله عليه وسلم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله الآية. وقرأ يعقوب (عدوا) يقال : عدا فلان يعدو عدوا وعدوا وعدوانا. أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب : كان يمنعه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البحتري إلى أبي طالب فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا تريدون؟ قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتكم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم قال أبو جهل: نعم لنعطينكها وأبيك وعشر أمثالها فما هي؟ قال: قولوا: لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها فقال صلى الله عليه وسلم : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك. فأنزل الله تعالى هذه الآية [ ص: 252 ] وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم. وفي رواية عنه أنهم قالوا ذلك عند نزول قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم نزلت ولا تسبوا إلخ، واستشكل ذلك بأن وصف آلهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضر ولا تنفع سب لها فكيف نهى عنه بما هنا. وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ولا بدع في ذلك كما ينهى عن التلاوة في المواضع المكروهة

                                                                                                                                                                                                                                      وقال في الكشف : المعنى على هذه الرواية لا يقع السب منكم بناء على ما ورد في الآية فيصير سبا لسبهم، وقيل: ما في الآية لا يعد سبا لأنه ذكر المساوئ لمجرد التحقير والإهانة وما فيها إنما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية، وفيه تأمل. وقريب منه ما قيل: إن النهي في الحقيقة إنما هو عن العدول عن الدعوة إلى السب كأنه قيل لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله تعالى فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء ويجر إلى سب الله عز وجل.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر؛ وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيرا ما يشتبهان، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء وخالفه الحسن قائلا: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا للفرق بينهما

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل الشهاب عن المقدسي في الرمز أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر، وهذا إذا لم يقتد به وإلا لا يقعد لأن فيه شين الدين. وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه ابتلي به كان قبل صيرورته إماما يقتدى به. ونقل عن أبي منصور أنه قال: كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر؟ وكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه؟ وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث، وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه. وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ بالمتولد منه، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه، اهـ. ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها كذلك أي مثل ذلك التزيين القوي زينا لكل أمة من الأمم عملهم من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا، وجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفر إذ الكلام فيهم، وبعملهم شرهم وفسادهم، والمشبه به تزيين سب الله تعالى شأنه لهم، واستدل بالآية على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر كما زين للمؤمن الإيمان

                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر ذلك المعتزلة وزين لهم الشيطان أعمالهم فتأولوا الآية لما لا يخفى ضعفه ثم إلى ربهم مالك أمرهم مرجعهم أي رجعوهم ومصيرهم بالبعث بعد الموت فينبئهم من غير تأخير بما كانوا يعملون

                                                                                                                                                                                                                                      108

                                                                                                                                                                                                                                      - في الدنيا على الاستمرار من خير أو شر وذلك بالثواب على الأول والعقاب على الثاني، فالجملة للوعد والوعيد [ ص: 253 ] وفسر بعضهم (ما) بالسيئات المزينة لهم وقال : إن هذا وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية