الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3061 ] ( 12 ) باب المزاح

الفصل الأول

4884 - عن أنس - رضي الله عنه - قال : إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير : " يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ " كان له نغير يلعب به فمات . متفق عليه .

التالي السابق


( 12 ) باب المزاح

بضم الميم ويكسر . قال شارح : المزاح بالضم اسم المزاح بالكسر ، وقيل بالضم اسم من مزح يمزح ، وبالكسر مصدر مازح ، وفي القاموس : مزح كمنع مزحا ومزاحة ومزاحا : دعب ، ومازحه ممازحة ومزاحا - بالكسر - وتمازحا . ثم المزاح انبساط مع الغير من غير إيذاء ، فإن بلغ الإيذاء يكون سخرية ، ثم اعلم أنه ورد عنه - صلى الله عليه وسلم : لا تمار أخاك ولا تمازحه ، وأخرجه الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس وقال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقال الجزري : إسناده جيد ، فقد رواه زياد بن أيوب ، عن عبد الرحمن بن محمد البخاري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الملك بن أبي بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وهذا إسناد مستقيم ، وليث بن أبي سليم - وإن كان فيه ضعف من قبل حفظه - فقد روى له مسلم مقرونا ، وكان عالما ذا صلاة وصيام ، ذكره ميرك . والحديث له تتمة على ما في الجامع الصغير ، وهى : لا تعده موعدا فتخلفه ، والحديث سيأتي في أصل الكتاب .

قال النووي : اعلم أن المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه ، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب ، ويشغل عن ذكر الله والفكر في مهمات الدين ، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ، ويورث الأحقاد ، ويسقط المهابة والوقار ، فأما ما سلم من هذه الأمور ، فهو المباح الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله على الندرة لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومؤانسته ، وهو سنة مستحبة ، فاعلم هذا ، فإنه مما يعظم الاحتياج إليه . اهـ .

وقال الحنفي : لكن لا يلائمه ما روي عن عبد الله بن الحارث قال : ما رأيت أحدا أكثر مزاحا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قلت : يلائمه من حيث أن غيره ما كان يتمالك من نفسه مثله - صلى الله عليه وسلم - فكان ترك المزاح بالنسبة إلى غيره أولى ، وقد روى الترمذي في الشمائل ، عن أبي هريرة قال : قالوا : يا رسول الله إنك تداعبنا . قال : " إني لا أقول إلا حقا " . والمعنى لا يقال الملوك بالحدادين ، والحاصل أن غيره - صلى الله عليه وسلم - داخل تحت نهيه ، إلا إذا كان متمكنا في الاستقامة على حده وعدم العدول عن جادته .

الفصل الأول

4884 - ( عن أنس - رضي الله عنه - قال : إن ) : مخففة من المثقلة واسمها ضمير الشأن ، أي : أنه ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا ) : بفتح اللام وتسمى لام الفارقة ، وفي نسخة للشمائل ليخاطبنا ، والمعنى : ليخالطنا غاية المخالطة ، ويعاشرنا غاية المعاشرة ، ويجالسنا ويمازحنا . ( حتى يقول لأخ لي ) أي : من أمي وأبوه أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري ( صغير : يا أبا عمير ) : بالتصغير واسمه كبشة ( ما فعل ) : بصيغة الفاعل ، أي : ما صنع ( النغير ؟ ) : بضم ففتح ، تصغير نغر بضم النون وفتح الغين المعجمة ، طائر يشبه العصفور أحمر المنقار ، وقيل : هو العصفور ، وقيل : هو الصعو صغير المنقار أحمر الرأس ، وقيل : أهل المدينة يسمونه البلبل ، والمعنى : ما جرى له حيث لم أره معك ، وفي هذا تسلية له على فقده بموته ، بينه بقوله ( كان له نغير يلعب به فمات ) أي : النغير ، وحزن الولد لفقده على عادة الصغار .

قال الطيبي : ( حتى ) غاية قوله : ( يخالطنا ) وضمير الجمع لأنس وأهل بيته ، أي : انتهت مخالطته لأهلنا كلهم حتى الصبي ، وحتى الملاعبة معه ، وحتى السؤال عن فعل النغير . وفي مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه إلا أم سليم ، فإنه كان يدخل عليها ، وأم سليم أم أنس بن مالك . وقال الراغب : الفعل التأثير من جهة مؤثرة ، والعمل كل فعل يكون من الحيوان بقصد ، وهو أخص من الفعل ; لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها بغير قصد ، وقد ينسب إلى الجمادات . اهـ كلامه . فالمعنى : ما حاله وشأنه ؟ ذكره الطيبي . ولو روي بصيغة المفعول لكان له وجه وجيه وتنبيه نبيه ، وصار المعنى : ما فعل به ؟ .

[ ص: 3062 ] وفي شرح السنة : فيه فوائد ، منها : أن صيد المدينة مباح بخلاف صيد مكة . قلت : لو ثبت هذا لارتفع الخلاف في أن المدينة لها حرم أم لا . لكن للشافعية أن يقولوا ليس نص في الحديث على أنه من صيد المدينة لاحتمال أنه صيد من خارجها و أدخل فيها . وحينئذ لا يضر ، فإن الصيد لو أخذ خارج مكة ، ثم أدخل في الحرم وذبح كان حلالا

عندهم ، فكذا هذا والله أعلم . قال : وإنه لا بأس أن يعطى الصبي الطير ليلعب به من غير أن يعذبه . قلت : هذا فرع آخر على المسألة السابقة ، إذ لو ثبت حرمية المدينة لوجب إرسال الصيد إن أخذ منها ، وكذا عندنا بعد دخوله في حرم مكة . قال : وإباحة تصغير الأسماء ؟ قلت : لأنه مبني على اللطف والشفقة ، لا سيما وفيه مراعاة السجع ، وهو مباح الكلام إذا لم يكن مقرونا بالتكلف . قال : وإباحة الدعابة ما لم يكن إثما ؟ قلت : بل استحبابه إذا كان تطييبا ومطايبة . قال : وجواز تكني الصبي ولا يدخل ذلك في باب الكذب . قلت : لأنه قصد به التفاؤل . قال : وقد نقل عن الشيخ نجم الدين الكبير غير ذلك من الفوائد ، وهي أن يجوز للرجل أن يدخل في بيت فيه امرأة أجنبية إذا أمن على نفسه الفتنة . قلت : فيه بحث ; لأنه إن أراد جواز الخلوة مع الأجنبية ، فهو لا يجوز بالإجماع ، وإن أراد الدخول عليها مع وجود غيرها ، فهو أمر ظاهر لا شبهة في جوازه ، حتى مع عدم الأمن من الفتنة أيضا ، كما في مسألة تحمل الشهادة ونحوها . وليس في الحديث دلالة على الخلوة ، مع أنه لو ثبت لكان جوازه من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم ، مع كونه معصوما مع أنه أب للأمة وليس لغير ذلك ، ولو كان وليا ، فإن الحفظ مرتبة دون العصمة ، ولذا لما سئل الجنيد : أيزني العارف ؟ فأطرق رأسه مليا ، ثم قال : وكان أمر الله قدرا مقدورا . وإنما أطلت هذا المبحث لئلا يتعلق به بعض الزنادقة والملاحدة والمباحية ، مع أنا لا نشك في جلالة الشيخ قدس سره ; حيث أثر نظره في الكلب . قال : وأن يجوز للرجل أن يسأل عما هو عالم به تعجبا منه . قلت : هذا يتوقف على تقدم علمه - صلى الله عليه وسلم - بموت النغير ، لاحتمال صدور هذا القول بمجرد فقده ، وهو أعم من حصول موته . قال : وفيه كمال خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن رعاية الضعفاء من مكارم الأخلاق ، وأنه يستحب استمالة قلوب الصغار ، وإدخال السرور في قلوبهم . قلت كيف لا ، وقد قال تعالى في وصفه الكريم في كلامه القديم : وإنك لعلى خلق عظيم . . . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية