الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المقصود من ذكر القصص لا سيما قصص الأنبياء الاعتبار بها ، فكان بيان ما وقع بين آدم - عليه السلام - وبين الشيطان من شديد العداوة مقتضيا للتحذير من الشيطان ، وكان المقام خطرا والتخلص عسرا - أشار إلى ذلك بالتأكيد وبيان ما سلط الشيطان به من المكايد الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئا من الحول والقوة ، فقال مناديا لهم بما يفهم الاستعطاف والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف : يا بني آدم [ ص: 381 ] أي : الذي خلقته بيدي وأسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاء لكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي لا يفتننكم أي : لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال الشيطان أي : البعيد المحترق بالذنوب ، يصدكم عما يكون سببا لردكم إلى وطنكم بتزيين ما ينزع عنكم من لباس التقوى المفضي إلى هتك العورات الموجب لخزي الدنيا ، فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار كما أخرج أبويكم من الجنة بما فتنهما به بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها ، وقد علمتم أن الدفع أسهل من الرفع فإياكم ثم إياكم! فالآية من الاحتباك : ذكر الفتنة أولا دليلا على حذفها ثانيا ، والإخراج ثانيا دليلا على حذف ضده أو نظيره أولا .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان قد بذل الجهد في إخراجهما ، فسر الإخراج - مشيرا إلى ذلك - بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع ، فقال [في موضع الحال من ضمير (الشيطان) ] : ينـزع عنهما أي : [بالتسبيب] بإدامة التزيين والأخذ من المأمن لباسهما [أي : الذي كان الله - سبحانه - قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعة ما نهيا عنه ، ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله : ليريهما سوآتهما ] فإن ذلك مبدأ ترك الحياة و (الحياء والإيمان في قرن) - كما أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر - رضي الله عنهما - و ( الحياء لا يأتي [ ص: 382 ] إلا بخير) - كما رواه الشيخان عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به ، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنته فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتلة - علل ذلك بقوله : إنه يراكم أي : الشيطان هو وقبيله أي : جنوده من حيث لا ترونهم عن مالك بن دينار : إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان كأنه قيل : لم سلطوا علينا هذا التسليط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد ، قال مخففا لأمرهم موهيا في الحقيقة لكيدهم : إنا أي : فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة جعلنا الشياطين أي : المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة أولياء أي : قرباء وقرناء للذين لا يؤمنون أي : يجددون الإيمان ؛ لأن بينهم تناسبا في الطباع يوجب الاتباع ، وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منه أو فتناهم يسيرا بهم ، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء ، بل هم لهم أعداء وآيتهم أنهم يؤمنون ، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم ، فسلطناهم بذلك على من حكمنا بأنه لا يؤمن بتزيينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب ، فعلنا ذلك ليتبين الرجل الكامل - الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى - من غيره فخذوا حذركم فإن الأمر [ ص: 383 ] خطر والخلاص عسر ، وبعبارة أخرى : إنا سلكناكم طريقا وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم ، وأقدرناهم على بعضكم ، فمن سلك سواء السبيل نجا ومن شذ أسره العدو ، ومن دنا من الحافات بمرافقة الشبهات قارب العدو ومن قاربه استغواه ، فكلما دنا منه تمكن من أسره ، وكل من تمكن من أسره بعد الخلاص فاحذروا ، وعدم رؤيتنا لهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم على أنه قد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة - رضي الله عنه - حين أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ الصدقة ، وكذا أبي بن كعب - رضي الله عنه - وحديث خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في شيطان العزى معروف في السير ، وكذا حديث سواد بن قارب - رضي الله عنه - في إرشاد رئيه من الجن له ، وكذا خطر ابن مالك - رضي الله عنه - في مثل ذلك وغيرهما ، وفي شرحي لنظمي للسيرة كثير من ذلك ، وكذا حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعلة من نار ليقطع عليه صلاته فأخزاه الله وأمكن منه رسول الله ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -

                                                                                                                                                                                                                                      (لولا دعوة أخي سليمان - عليه السلام - لأصبح مربوطا بسارية المسجد يتلعب به ولدان أهل [ ص: 384 ] المدينة ) قال أبو حيان : إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة كما أن الملائكة - عليهم السلام - تبدو في صور كحديث جبريل - عليه السلام - .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية