الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 483 ] القول في تأويل قوله ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( 64 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " قل " يا محمد ، لأهل الكتاب ، وهم أهل التوراة والإنجيل " تعالوا " هلموا " إلى كلمة سواء " يعني : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم ، والكلمة العدل ، هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ، ونبرأ من كل معبود سواه ، فلا نشرك به شيئا .

وقوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا " يقول : ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه " فإن تولوا " يقول : فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها ، فلم يجيبوك إليها " فقولوا " أيها المؤمنون ، للمتولين عن ذلك " اشهدوا بأنا مسلمون " .

واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ذكر من قال ذلك :

7191 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . [ ص: 484 ]

7192 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود إلى كلمة السواء .

7193 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا يهود أهل المدينة إلى ذلك ، فأبوا عليه ، فجاهدهم قال : دعاهم إلى قول الله - عز وجل - : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية .

وقال آخرون : بل نزلت في الوفد من نصارى نجران .

ذكر من قال ذلك :

7194 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية ، إلى قوله : " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " قال : فدعاهم إلى النصف ، وقطع عنهم الحجة - يعني وفد نجران .

7195 - حدثنا موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ثم دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . - يعني الوفد من نصارى نجران - فقال : " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية .

7196 - حدثني يونس قال : أخبرني ابن وهب قال : حدثنا ابن زيد قال قال : يعني - جل ثناؤه - : " إن هذا لهو القصص الحق " في عيسى على ما قد بيناه فيما مضى قال : فأبوا - يعني الوفد من نجران - فقال : ادعهم إلى أيسر من هذا ، " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " [ ص: 485 ] فقرأ حتى بلغ أربابا من دون الله " فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر .

قال أبو جعفر : وإنما قلنا عنى بقوله : " يا أهل الكتاب " أهل الكتابين ، لأنهما جميعا من أهل الكتاب ، ولم يخصص - جل ثناؤه - بقوله : " يا أهل الكتاب " بعضا دون بعض . فليس بأن يكون موجها ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة ، بأولى منه بأن يكون موجها إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل ، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوراة . وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر ، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابي معنيا به . لأن إفراد العبادة لله وحده ، وإخلاص التوحيد له ، واجب على كل مأمور منهي من خلق الله . واسم " أهل الكتاب " يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل ، فكان معلوما بذلك أنه عني به الفريقان جميعا .

وأما تأويل قوله : " تعالوا " فإنه : أقبلوا وهلموا . وإنما " هو تفاعلوا " من " العلو " فكأن القائل لصاحبه : " تعال إلي " قائل " تفاعل " من " العلو " كما يقال : " تدان مني " من " الدنو " و " تقارب مني " من " القرب " . [ ص: 486 ]

وقوله : " إلى كلمة سواء " . فإنها الكلمة العدل ، " والسواء " من نعت " الكلمة " .

وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع " سواء " في الإعراب " لكلمة " وهو اسم لا صفة .

فقال بعض نحويي البصرة : جر " سواء " لأنها من صفة " الكلمة " وهي العدل ، وأراد مستوية . قال : ولو أراد " استواء " كان النصب . وإن شاء أن يجعلها على " الاستواء " ويجر ، جاز ، ويجعله من صفة " الكلمة " مثل " الخلق " لأن " الخلق " هو " المخلوق " . " والخلق " قد يكون صفة واسما ، ويجعل " الاستواء " مثل " المستوي " قال - عز وجل - : ( الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ) [ سورة الحج : 25 ] ، لأن " السواء " للآخر ، وهو اسم ليس بصفة فيجرى على الأول ، وذلك إذا أراد به " الاستواء " . فإن أراد به " مستويا " جاز أن يجري على الأول . والرفع في ذا المعنى جيد ، لأنها لا تغير عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل " عدل " و " رضى " و " جنب " وما أشبه ذلك . وقالوا : [ في قوله ] : ( أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ) [ سورة الجاثية : 21 ] ، ف " السواء " للمحيا والممات بهذا ، المبتدأ .

وإن شئت أجريته على الأول ، وجعلته صفة مقدمة ، كأنها من سبب الأول [ ص: 487 ] فجرت عليه . وذلك إذا جعلته في معنى " مستوي " . والرفع وجه الكلام كما فسرت لك .

وقال بعض نحويي الكوفة : " سواء " مصدر وضع موضع الفعل ، يعني موضع " متساوية " : و " متساو " فمرة يأتي على الفعل ، ومرة على المصدر . وقد يقال في " سواء " بمعنى عدل : " سوى وسوى " كما قال - جل ثناؤه - : ( مكانا سوى ) و ( سوى ) [ سورة طه : 58 ] ، يراد به : عدل ونصف بيننا وبينك . وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك ( " إلى كلمة عدل بيننا وبينكم " ) .

وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله : " إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " بأن " السواء " هو العدل ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

7197 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " عدل بيننا وبينكم " ألا نعبد إلا الله " الآية .

7198 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا " بمثله . [ ص: 488 ]

وقال آخرون : هو قول " لا إله إلا الله " .

ذكر من قال ذلك :

7199 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : قال أبو العالية : " كلمة السواء " لا إله إلا الله .

وأما قوله : " ألا نعبد إلا الله " فإن " أن " في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله .

وقد بينا - معنى " العبادة " في كلام العرب فيما مضى ، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته .

وأما قوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا " فإن " اتخاذ بعضهم بعضا " ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله ، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله ، كما قال - جل ثناؤه - : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) [ سورة التوبة : 31 ] ، كما : -

7200 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " يقول : لا يطع بعضنا بعضا في معصية الله . ويقال إن تلك الربوبية : أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة ، وإن لم يصلوا لهم . [ ص: 489 ]

وقال آخرون : " اتخاذ بعضهم بعضا أربابا " سجود بعضهم لبعض .

ذكر من قال ذلك :

7201 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " قال : سجود بعضهم لبعض .

وأما قوله : " فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " فإنه يعني : فإن تولى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا ، فقولوا أنتم ، أيها المؤمنون ، لهم : اشهدوا علينا بأنا بما توليتم عنه ، من توحيد الله ، وإخلاص العبودية له ، وأنه الإله الذي لا شريك له " مسلمون " يعني : خاضعون لله به ، متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا .

وقد بينا معنى " الإسلام " فيما مضى ، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية