الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 117 ] 46 - باب

                                أهل العلم والفضل أحق بالإمامة

                                فيه خمسة أحاديث :

                                الحديث الأول :

                                646 678 - حدثنا إسحاق بن نصر : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : حدثني أبو بردة ، عن أبي موسى ، قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه ، فقال : ( مروا أبا بكر فليصل بالناس ) ، قالت عائشة : إنه رجل رقيق ، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس ، قال : ( مري أبا بكر فليصل بالناس ) ، فعادت ، فقال : ( مري أبا بكر فليصل بالناس ؛ فإنكن صواحب يوسف ) ، فأتاه الرسول ، فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .

                                التالي السابق


                                استدل البخاري بهذا الحديث على أن أهل الفضل والعلم أحق بالإمامة من غيرهم ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر من بين الصحابة كلهم بالصلاة بالناس ، وروجع في ذلك مرارا وهو يأبى إلا تقديمه في الصلاة على غيره من الصحابة ، وإنما قدمه لعلمه وفضله ؛ فأما فضله على سائر الصحابة فهو مما اجتمع عليه أهل السنة والجماعة ، وأما علمه فكذلك .

                                وقد حكى أبو بكر ابن السمعاني وغيره إجماع أهل السنة عليه ، أيضا .

                                وهذا مما يستدل به من قال : إن الأفقه والأعلم مقدم على الأقرأ ؛ فإن أبي بن كعب كان أقرأ الصحابة ، كما قال عمر : ( أبي أقرؤنا ) .

                                وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ، أنه قال : ( أقرأ أمتي لكتاب الله أبي بن كعب ) .

                                [ ص: 118 ] خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه ، وصححه الترمذي من حديث أبي قلابة ، عن أنس .

                                وقد روي عن أبي قلابة مرسلا من غير ذكر ( أنس ) ، وهو أصح عند كثير من الحفاظ .

                                فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على أبي بن كعب في الصلاة بالناس دل على أن الأعلم والأفقه والأفضل مقدم على الأقرأ .

                                وقد اختلف العلماء : هل يقدم الأقرأ على الأفقه ، أم الأفقه على الأقرأ ؟

                                فقالت طائفة : يقدم الأفقه ، وهو قول عطاء والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي ثور .

                                وقال الليث : يؤمهم أفضلهم وخيرهم ، ثم أقرؤهم ، ثم أسنهم .

                                وقالت طائفة : يقدم الأقرأ على الأفقه ، وحكي عن الأشعث بن قيس وابن سيرين والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، حكاه عنهم ابن المنذر واختاره .

                                وما حكيناه عن الثوري ، حكاه أصحابه عنه في كتبهم المصنفة على مذهبه .

                                ونص أحمد على أنه يقدم الأقرأ إذا كان يعرف ما تحتاج إليه الصلاة من الفقه ، وكذلك قال كثير من المحققين من أصحابه ، وحكوا مذهبه على هذا الوجه .

                                واستدل من قدم الأقرأ بما خرجه مسلم في ( صحيحه ) من حديث أوس بن [ ص: 119 ] ضمعج ، عن أبي مسعود الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ) .

                                وفي رواية لمسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة ) .

                                وخرجه الحاكم ، وعنده ( يؤم القوم أكثرهم قرآنا ) ، وذكر الحديث .

                                وخرج مسلم - أيضا - من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم ، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم ) .

                                وخرج البخاري في ( كتابه ) هذا من حديث عمرو بن سلمة الجرمي ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآنا ) .

                                وخرج - أيضا - فيه من حديث ابن عمر ، قال : لما قدم المهاجرون الأولون قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآنا .

                                وخرج الإمام أحمد من حديث أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يؤمكم أقرؤكم ) .

                                وخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( ليؤمكم قراؤكم ) .

                                [ ص: 120 ] وفي الباب أحاديث أخر .

                                وقد تأول الشافعي وغيره هذه الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خاطب أصحابه ، وكان أكثرهم قرآنا أكثرهم فقها ؛ فإن قراءتهم كانت علما وعملا بخلاف من بعدهم .

                                وأجيب عن هذا بوجهين :

                                أحدهما : أن هذا خطاب عام للأمة كلهم ، فلا يختص بالصحابة .

                                والثاني : أنه فرق بين الأقرأ والأعلم بالسنة ، وقدم الأقرأ عليه .

                                وأجاب الإمام أحمد عن تقديم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على أبي بن كعب وغيره ، بأنه أراد بذلك التنبيه على خلافته ، فلهذا المعنى قدمه في الصلاة على الناس كلهم .

                                وقد منع بعضهم أن يكون أبي بن كعب أقرأ من أبي بكر ، لأن المراد بالأقرأ في الإمامة الأكثر قرآنا ، وقال : كان أبو بكر يقرأ القرآن كله ، فلا مزية لأبي بن كعب عليه في ذلك ، وامتاز أبو بكر بالعلم والفضل .

                                وهذه المسألة لأصحابنا فيها وجهان : إذا اجتمع قارئان ، أحدهما أكثر قرآنا ، والآخر أجود قراءة ، فهل يقدم الأكثر قرآنا على الأجود قراءة ، أم بالعكس ؟

                                وأكثر الأحاديث تدل على اعتبار كثرة القرآن .

                                وإن اجتمع فقيهان قارئان ، أحدهما أفقه ، والآخر أجود قراءة ، ففي أيهما يقدم وجهان ، أيضا .

                                وقيل : إن المنصوص عن أحمد ، أنه يقدم الأقرأ .



                                الخدمات العلمية