الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 294 ] الجزء الرابع

من كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ في الحديث

تأليف الشيخ الإمام الأجل العالم الحافظ زين الدين ناصر السنة أبي بكر محمد بن أبي عثمان موسى بن عثمان الحازمي - رحمه الله - رواية الشيخ الإمام سديد الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن علي بن سماقا الأشعري ، أدام الله كرامته بتقواه .

[ ص: 295 ] بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلواته على محمد وآله وسلامه

18 - باب في سجود السهو بعد السلام والاختلاف فيه

حديث ابن مسعود في سجود السهو بعد السلام - محل سجود السهو في المذاهب الأربعة - من رأى السجود بعد السلام - من ذهب إلى أن السجود كله قبل السلام - رأي الشافعي - مناقشة المذاهب - طرق التحري والحيطة .

أخبرني أبو الفضل محمد بن بنيمان بن يوسف ، أخبرنا أبو الفتح عبدوس [ ص: 296 ] بن عبد الله ، أخبرنا الحسين بن علي بن سلمة ، أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ ، أخبرنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا الحسين بن إسماعيل بن سليمان المجالدي ، حدثنا الفضل بن عياض ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة فزاد فيها أو نقص ، فلما سلم قلنا : يا نبي الله ، هل حدث في الصلاة شيء ؟ قال : وما ذاك ؟ فذكرنا له الذي فعل ، فثنى رجله واستقبل القبلة ، فسجد سجدتي السهو ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : لو حدث في الصلاة شيء لأنبأتكم به . ثم قال : إنما أنا بشر ؛ أنسى كما تنسون ، فأيكم شك في صلاته فليتحر الذي يرى أنه صواب ، ثم يسلم ، ويسجد سجدتي السهو .

هذا حديث صحيح متفق عليه ، أخرجاه في الصحيح من حديث منصور ، وله في الصحاح طرق .

[ ص: 297 ] وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجود السهو بعد السلام من غير وجه ، وهو في حديث عمران بن حصين ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن جعفر ، والمغيرة بن شعبة ، وثوبان .

وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب على أربعة أوجه :

فطائفة رأت السجود كله بعد السلام عملا بهذا الحديث ، وممن روينا ذلك عنه من الصحابة : علي بن أبي طالب ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، ومن التابعين : الحسن ، وإبراهيم النخعي ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وأبو حنيفة ، وأهل الكوفة .

وذهبت طائفة أخرى إلى أن السجود كله قبل السلام ، وأن حديث ابن مسعود متقدم منسوخ ، وتمسكوا في ذلك بأحاديث .

قرأت على أبي طاهر روح بن بدر بن ثابت ، أخبرك محمود بن إسماعيل الصيرفي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين ، أخبرنا سليمان بن أحمد ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، حدثنا عجلان ، أن محمد بن يوسف مولى عثمان بن عفان حدثه ، عن أبيه : أن معاوية بن أبي سفيان صلى بهم ، فنسي وقام ، وعليه جلوس فلم يجلس ، فلما كان آخر صلاته سجد سجدتين قبل التسليم . قال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع .

رواه عبد الله بن صالح عن بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، عن عجلان نحو رواية يحيى بن أيوب ، وكذلك رواه ابن لهيعة عن ابن عجلان ، وقد روي عن بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، عن العجلان مولى فاطمة ، عن محمد بن يوسف .

[ ص: 298 ] أخبرنا طاهر بن محمد بن طاهر ، أخبرنا أحمد بن علي بن عبد الله في كتابه ، أخبرنا محمد بن عبد الله الضبي ، أخبرني محمد بن القاسم العتكي ، حدثنا إسماعيل بن قتيبة ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك ، وليبن على اليقين ، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين ، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان ، وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته ، والسجدتان ترغمان أنف الشيطان .

هذا حديث صحيح مخرج في كتاب مسلم من حديث عطاء .

[ ص: 299 ] قال الشافعي : وقد روينا قولنا عن أبي سعيد الخدري ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وكلهم يروون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيهما جميعا قبل السلام .

قال الشافعي - رضي الله عنه - : وأخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن الأعرج ، عن عبد الله بن بحينة ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ثم قام فلم يجلس ، فقام الناس معه ، فلما قضى الصلاة ونظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين ، وهو جالس قبل التسليم ، ثم سلم .

وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري في الصحيح ، عن عبد الله بن يوسف ، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى ، جميعا عن مالك ، ثم قال الشافعي في حديث ابن بحينة : وهذا نقصان ، وقال في حديث أبي سعيد : وهذه زيادة . فبين بذلك أنه سجد فيهما جميعا قبل السلام .

[ ص: 300 ] وقال الشافعي - رضي الله عنه - في القديم أيضا : أخبرنا مطرف بن مازن ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجدتي السهو قبل السلام وبعده ، وآخر الأمرين قبل السلام ، ثم أكده الشافعي برواية معاوية بن أبي سفيان ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدهما قبل السلام ، قال : وصحبة معاوية متأخرة .

أخبرنا أبو منصور محمد بن أحمد بن الفرج ، أخبرنا أبو محمد السمرقندي عبد الله بن أحمد ، أخبرنا أحمد بن علي ، أخبرنا الحسن بن أبي بكر ، أخبرنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن منصور أبو إسماعيل الفقيه ، حدثنا ابن أبي السري ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، حدثنا أيوب ، عن ابن سيرين ، والحسن ، عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بعد السلام والكلام .

قال الحسن : فنسخ ، وثبتت السجدتان .

وممن رأى السجود كله قبل السلام : أبو هريرة ، ومكحول ، والزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، والأوزاعي ، وأهل الشام ، والليث بن سعد ، وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - .

وطريق الإنصاف أن نقول : أما حديث الزهري الذي فيه دلالة على النسخ ففيه انقطاع ؛ فلا يقع معارضا للأحاديث الثابتة ، وأما بقية الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده قولا وفعلا فهي وإن كانت ثابتة صحيحة ففيها نوع تعارض ، غير أن تقديم بعضها على بعض غير معلوم برواية موصولة صحيحة ، والأشبه حمل الأحاديث على التوسع وجواز الأمرين .

[ ص: 301 ] وقد قال الشافعي في القديم - مع ما حكيناه عنه - : من سجد للسهو بعد السلام تشهد ثم يسلم ، ومن سجد قبل السلام أجزأه التشهد الأول ، وفي قوله هذا تجويز السجود بعد السلام وقبله .

وقد روى أحمد بن إسحاق القاضي ، عن أبيه قال : حدثنا الشافعي - رضي الله عنه - وذكر حديث ذي اليدين ، وسجدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزيادة بعد التسليم .

وفي النقصان قبل التسليم ، فذهبنا إلى ذلك في الحديثين جميعا ، وقد ذهبت طائفة أخرى إلى أن السهو إذا كان في النقصان كان السجود قبل السلام على حديث ابن بحينة ، وإذا كان في الزيادة كان السجود بعد السلام ، وإليه ذهب مالك بن أنس ، ونفر من أهل الحجاز وأبو ثور .

وقالت طائفة أخرى : الحيطة في هذا أن تتبع ظواهر الأخبار إذا نهض من ثنتين سجدهما قبل السلام على حديثابن بحينة ، وإذا شك فرجع إلى اليقين سجدهما قبل السلام على حديث أبي سعيد ، وإذا سلم من ثنتين سجدهما بعد السلام على حديث أبي هريرة ، وإذا شك وكان ممن يرجع إلى التحري سجدهما بعد السلام على حديث ابن مسعود ، وكل سهو يدخل عليه سوى ما ذكرناه يسجد قبل السلام سوى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، وسليمان بن داود الهاشمي من أصحاب الشافعي ، وأبو خيثمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية