الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله سبحانه : لا أجد في ما أوحي إلي محرما .. إلخ . كناية عن عدم الوجود وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى وتنبيه كما قيل على أن الأصل في الأشياء الحل و محرما صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني في ما أوحي قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند بالظرف وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلي ( أوحي ) أو ما أوحي إلي من القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها على طاعم أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم : " ( محرم على أزواجنا ) " وقوله تعالى : يطعمه في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه : طائر يطير قطعا للمجاز وقرئ ( يطعمه ) بالتشديد وكسر العين والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى والمراد بالطعم تناول الغذاء وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم في الكلام عليه والمتبادر هنا الأول وقد يراد به مطلق النفع ومنه ما في حديث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا الأعجاز صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به نعم قيل : المراد سائر أنواع التناولات [ ص: 44 ] من الأكل والشرب وغير ذلك ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم : رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء ( يطعمه ) على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن يكون ذلك الطعام أو الشيء المحرم ميتة المراد بها ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها وقرأ ابن كثير وحمزة ( تكون ) بالتاء لتأنيث الخبر وقرأ ابن عامر وأبو جعفر يكون ميتة بالياء ورفع ميتة وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة أو دما عطف على ميتة أو على ما في حيزه وقوله سبحانه : مسفوحا أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال وفي الحديث أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال وقد رخص في دم العروق بعد الذبح وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء وعن عكرمة أنه قال : لولا هذا القيد لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود .

                                                                                                                                                                                                                                      أو لحم خنزير فإنه أي اللحم كما قيل لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى وقيل وهو خلاف الظاهر : الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور رجس أي قذر أو خبيث مخبث أو فسقا عطف على لحم خنزير على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة أهل لغير الله به صفة له موضحة وأصل الإهلال رفع الصوت والمراد الذبح على اسم الأصنام وإنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق وجوز أن يكون ( فسقا ) مفعولا له لأهل وهو عطف على ( يكون ) و ( به ) قائم مقام الفاعل والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في ( يكون ) .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو حيان : وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ ( إلا أن يكون ميتة ) بالرفع لأن ضمير ( به ) ليس له ما يعود عليه ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعراء . اهـ . وعنى بذلك كما قال الحلبي إنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام من التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه من كان ضرورة كقوله .


                                                                                                                                                                                                                                      ترمي بكفي كان من أرمى البشر



                                                                                                                                                                                                                                      أراد بكفي رجل كان .. إلخ . وهذا كما حقق في موضعه رأي بعض وأما غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة كما قال السفاقسي فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى فمن اضطر أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك غير باغ أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن : أي غير متناول للذة وقال مجاهد : غير باغ على إمام ولا عاد أي متجاوز قدر [ ص: 45 ] الضرورة فإن ربك غفور رحيم (145) مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ونصب ( غير ) على أنه حال وكذا ما عطف عليه وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث أنه لحم الميتة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والفسق الذي أهل لغير الله تعالى به ولا شك أنها أكثر من ذلك وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة وهذا لا دلالة فيه على الحصر والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : المستثنى ليس ميتة بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد قال القطب : نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الإشكال وضعف ذلك الجواب بأوجه منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة النحل : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما تفيد الحصر وقال سبحانه في سورة المائدة : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا لأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل : وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر [ ص: 46 ] المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال : إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة وبعضهم قال لاتصال الاستثناء : إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من محرما وفيه تكلف ظاهر وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب أيضا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالإخبار وتعقبه الإمام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز وأجاب ذلك عن القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر ها هنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك البحر يعني ابن عباس وقرأ قل لا أجد فيما أوحي إلي الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت قل لا أجد .. إلخ . وأخرج عن ابن عباس قال ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه قل لا أجد الآية وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس ثم قال ومن السؤالات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلى الله عليه وسلم قال : ما استخبثته العرب فهو حرام وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال : يعافه طبعي ولم يكن سببا لتحريمه وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم . انتهى . ولا يخفى ما فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه : على طاعم يطعمه على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال عليه الصلاة والسلام : إنما قال الله تعالى قل لا أجد [ ص: 47 ] في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه تنتفعوا به .

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل الشافعية بقوله سبحانه : فإنه رجس على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية