الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 53 ] 137

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

ذكر خروج عبد الله بن علي وهزيمته

قد ذكرنا مسير عبد الله بن علي إلى الصائفة في الجنود ، وموت السفاح ، وإرسال عيسى بن موسى إلى عمه عبد الله بن علي يخبره بموته ، ويأمره بالبيعة لأبي جعفر المنصور ، وكان السفاح قد أمر بذلك قبل وفاته .

فلما قدم الرسول على عبد الله بذلك لحقه بدلوك ، وهي بأفواه الدروب ، فأمر مناديا فنادى : الصلاة جامعة ! فاجتمعوا عليه ، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة السفاح ، ودعا الناس إلى نفسه .

وأعلمهم أن السفاح حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه فأرادهم على المسير إليه ، فقال : من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي ، فلم ينتدب [ له ] غيري ، وعلى هذا خرجت من عنده ، وقتلت من قتلت ، وشهد له أبو غانم الطائي ، وخفاف المروروذي وغيرهما من القواد ، فبايعوه ، وفيهم حميد بن قحطبة وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة ، إلا أن حميدا فارقه ، على ما نذكره .

ثم سار عبد الله حتى نزل حران ، وبها مقاتل العكي قد استخلفه أبو جعفر لما سار إلى مكة ، فتحصن منه مقاتل ، فحصره أربعين يوما .

وكان أبو مسلم قد عاد من الحج مع المنصور ، كما ذكرناه ، فقال للمنصور : إن شئت جمعت ثيابي في منطقتي وخدمتك ، وإن شئت أتيت خراسان فأمددتك بالجنود ، وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن علي .

فأمره بالمسير لحرب عبد الله ، فسار أبو مسلم في الجنود نحو عبد الله ، فلم يتخلف عنه أحد ، وكان قد لحقه حميد بن قحطبة فسار معه ، وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي .

[ ص: 54 ] فلما بلغ عبد الله ، وهو يحاصر حران ، إقبال أبي مسلم خشي أن يهجم عليه عطاء العتكي أماما ، فنزل إليه فيمن معه ، وأقام معه أياما ، ثم وجهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي بالرقة ، ومعه ابناه ، وكتب معه كتابا .

فلما قدموا على عثمان دفع العتكي الكتاب إليه ، فقتل العتكي واحتبس ابنيه ، فلما هزم عبد الله قتلهما .

وكان عبد الله بن علي قد خشي أن لا يناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحوا من سبعة عشر ألفا ، واستعمل حميد بن قحطبة على حلب ، وكتب معه كتابا إلى زفر بن عاصم عاملها يأمره بقتل حميد إذا قدم عليه ، فسار حميد والكتاب معه ، فلما كان ببعض الطريق قال : إن ذهابي بكتاب لا أعلم ما فيه لغرر . فقرأه ، فلما رأى ما فيه أعلم خاصته ما في هذا الكتاب ، وقال : من أراد المسير معي منكم فليسر . فاتبعه ناس كثير منهم ، وسار على الرصافة إلى العراق .

فأمر المنصور محمد بن صول بالمسير إلى عبد الله بن علي ليمكر به ، فلما أتاه قال له : إني سمعت أبا العباس يقول : الخليفة بعدي عمي عبد الله . فقال له : كذبت ، إنما وضعك أبو جعفر . فضرب عنقه .

ومحمد بن صول هو جد إبراهيم بن العباس الكاتب الصولي .

ثم أقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين وخندق عليه ، وقدم أبو مسلم فيمن معه ، وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة ، وكان خليفته بإرمينية ، يأمره أن يوافي أبا مسلم ، فقدم على أبي مسلم بالموصل ، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية نصيبين فأخذ طريق الشام ، ولم يعرض لعبد الله .

وكتب إليه : إني لم أومر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام فأنا أريدها . فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام لعبد الله : كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبي ذرارينا ؟ ولكن نخرج إلى بلادنا فنمنعه ونقاتله . فقال لهم عبد الله : إنه والله ما يريد الشام وما توجه إلا لقتالكم ، وإن أقمتم ليأتينكم .

فأبوا إلا المسير إلى الشام ، وأبو مسلم قريب منهم ، فارتحل عبد الله نحو الشام ، وتحول أبو مسلم فنزل في معسكر عبد الله بن علي في موضعه ، وعور ما حوله من المياه ، وألقى فيها الجيف .

وبلغ عبد الله ذلك فقال لأصحابه : ألم أقل لكم ؟ ورجع فنزل في موضع عسكر [ ص: 55 ] أبي مسلم الذي كان به ، فاقتتلوا خمسة أشهر ، وأهل الشام أكثر فرسانا وأكمل عدة ، وعلى ميمنة عبد الله بكار بن مسلم العقيلي ، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي ، وعلى الخيل عبد الصمد بن علي أخو عبد الله ، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة ، وعلى ميسرته خازم بن خزيمة ، فاقتتلوا شهرا .

ثم إن أصحاب عبد الله حملوا على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم ورجعوا ، ثم حمل عليهم عبد الصمد بن علي في خيل مجردة فقتل منهم ثمانية عشر رجلا ، ورجع في أصحابه ، ثم تجمعوا وحملوا ثانية على أصحاب أبي مسلم ، فأزالوا صفهم ، وجالوا جولة .

فقيل لأبي مسلم : لو حولت دابتك إلى هذا التل ليراك الناس فيرجعوا فإنهم قد انهزموا . فقال : إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال . وأمر مناديا فنادى : يا أهل خراسان ارجعوا فإن العاقبة لمن اتقى . فتراجع الناس .

وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال :


من كان ينوي أهله فلا رجع فر من الموت وفي الموت وقع

.

وكان قد عمل لأبي مسلم عريش ، فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال ، فإن رأى خللا في الجيش سده وأمر مقدم تلك الناحية بالاحتياط وبما يفعل ، فلا تزال رسله تختلف إليهم حتى ينصرف الناس بعضهم عن بعض .

فلما كان يوم الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا فاقتتلوا ، فمكر بهم أبو مسلم ، وأمر الحسن بن قحطبة أن يعري الميمنة ، [ ويضم ] أكثرها إلى الميسرة وليترك ، في الميمنة جماعة أصحابه وأشداءهم ، فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم ، وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم .

وأمر أبو مسلم أهل القلب أن يحملوا مع من بقي في ميمنته على ميسرة أهل الشام ، فحملوا عليهم فحطموهم ، وجال القلب والميمنة ، وركبهم أصحاب أبي مسلم ، فانهزم أصحاب عبد الله .

فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي : يا ابن سراقة ما ترى ؟ قال : أرى أن تصبر وتقاتل حتى تموت ، فإن الفرار قبيح بمثلك ، وقد عبته على مروان . قال : فإني [ ص: 56 ] آتي العراق . قال : فأنا معك .

فانهزموا وتركوا عسكرهم ، فحواه أبو مسلم وكتب بذلك إلى المنصور ، فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصي ما أصابوا من العسكر ، فغضب أبو مسلم .

ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علي ، فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فآمنه المنصور ، وقيل : بل أقام عبد الصمد بن علي بالرصافة حتى قدمه جمهور بن مرار العجلي في خيول أرسلها المنصور ، فأخذه فبعث به إلى المنصور موثقا مع أبي الخصيب فأطلقه ، وأما عبد الله بن علي فأتى أخاه سليمان بن علي بالبصرة ، فأقام عنده زمانا متواريا .

ثم إن أبا مسلم آمن الناس بعد الهزيمة ، وأمر بالكف عنهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية