القدس اليوم

05/08/2008| إسلام ويب

منذ أكثر من سنة لم أستطع دخول بيت المقدس، ولمناسبة مؤتمر الاستثمار الذي عقد في بيت لحم، سمح لي الاحتلال بالمرور من القدس نحو بيت لحم، لكن ما إن وصلت إلى باب العامود حتى قررت صرف النظر عن مؤتمر الاستثمار وقررت متابعة وضع القدس تحت الاستعمار، واتصلت بأصدقاء قادمين من الإمارات إلى بيت لحم لحضور المؤتمر وقررنا تمضية النهار في القدس. على زاوية طريق نابلس قبالة باب العامود، لا يزال أبو سلام دعنا موزع الصحف العجوز صامداً في مكانه يعرض صحفه ومجلاته على الحائط.

ولا يزال الشارع مكتظاً، سواء طريق نابلس أو شارع سليمان القانوني الموازي لسور القدس أو شارع صلاح الدين المنطلق غرباً من جهة باب الساهرة. هذه المنطقة كانت محررة عملياً قبل عقود إبان الانتفاضة الأولى، هنا كانت مراكز القوى الوطنية والمؤسسات الفلسطينية والنقابات، وهنا كنت أتواجد يومياً مع زملاء وأصدقاء، نلازم المدينة المقدسة وننظم التظاهرات والاحتجاجات ونرصد تطور الانتفاضة وننتقل إلى المدن الأخرى. كان النبض الوطني ينطلق من القدس.

لكن المدينة الآن فريسة الاستيطان والتهويد، فمنطقة الشيخ جراح ومدخل المدينة الشمالي القادم من رام الله، باتا قطعة من مدينة أخرى ليست القدس التي نعرف من قبل، فالاحتلال يغير المعالم التقليدية للمدينة حتى تكاد تختفي معالمها الأصلية، في إطار مخطط مبرمج لنزع الطابع العربي الإسلامي عنها. حتى البلدة القديمة صارت نهباً للاستيطان الزاحف من زقاق إلى آخر ومن حي إلى آخر.

ولعل منطقة حائط البراق دليل على ذلك، حيث أقام اليهود مباني ذات طابع غريب عن المدينة، وما زالوا يتقدمون من جميع النواحي ومن تحت أرضية الحرم القدسي عبر الأنفاق، في محاولة لتشديد الخناق على المسجد الأقصى. الأصدقاء الثلاثة القادمون من الإمارات ليست لديهم فكرة عما كانت عليه القدس قبل مؤتمر مدريد.

وبالتالي لم يكن وجومهم للتغييرات التي حدثت منذ ما سمي بعملية السلام يذكر، فيما أن العبد الفقير لله واكب هذه التغييرات سنة بعد سنة، فالإسرائيليون عملياً يضعون اللمسات الأخيرة للإطباق على المدينة بالكامل، وثمة حفريات تحت ساحة الحرم وحول المسجد الأقصى، في امتدادات متشعبة تغطي البلدة القديمة وقرية سلوان المجاورة.

وثمة مخططات جاهزة لإقامة كنس يهودية في محيط المسجد الأقصى، أخطرها كنيس يتم التخطيط لإقامته قرب قبة الصخرة المشرفة. وثمة تشديد مطلق على الدخول إلى الحرم تمارسه الشرطة الإسرائيلية، التي تسيطر على أبواب الحرم وتدقق في هويات الداخلين، حيث استدعى الأمر ربع ساعة للسماح للأصدقاء بالمرور رغم حصولهم على تصاريح مسبقة.

وفي ساحة الحرم ثمة مصلون لا يبارحون المكان لحمايته، وداخل قبة الصخرة ثمة جمهرة من النساء يستمعن إلى حديث امرأة داعية، بينما يتنقل سدنة الحرم من مكان إلى آخر في حالة يقظة تامة، خشية تسلل أفراد من الجماعات اليهودية المتطرفة التي لا تزال تعمل تحت وهم إقامة الهيكل المزعوم في مكان المسجد الأقصى، وهو الهيكل الذي توزع صوراً له وكأنه مبنى عملاق، فيما يقول المؤرخون الإسرائيليون الجدد:إنه لم يكن أكثر من مبنى صغير طوله 18 ذراعاً وعرضه 12 ذراعاً.

وكان نقطة للتسوق وتبديل النقود ليس إلا، فيما تصوره الجماعات اليهودية وكأنه من أعظم المباني في التاريخ، فالأسطورة اليهودية لا تنتهي عند تضخيم الهيكل وتقزيم ما عداه، ولا عند سرقة تراث المدينة واحتلال بيوتها القديمة وتزوير تاريخها وتهويده، بل يصل الأمر إلى التراث الفلسطيني من حيث سرقة الحمص والفلافل وتسويقه دولياً كطعام إسرائيلي، وسرقة التطريز الفلسطيني، وسرقة حتى الكوفية الفلسطينية التقليدية باستحداث كوفية يهودية مشابهة ذات لون أزرق عليها نجمة داود.

كل شيء قابل للتزوير هنا، حتى الوجوه التي تراها هي مزورة، فاللكنة التي كان يتحدث بها شرطي إسرائيلي أسود من أصل أثيوبي تفضحه باعتبار أن علاقته باليهودية حديثة جداً، فالوكالة اليهودية تقنع أناساً جائعين في أثيوبيا والهند بأنهم يهود، ثم تنقلهم إلى "إسرائيل" حيث يجري تهويدهم.

وشوارع البلدة القديمة هي الأخرى لحقها التهويد، حيث تجري إضافة أسماء يهودية مختلفة لها، وحالياً فإن استيراد مهاجرين جدد هو الشغل الشاغل للدولة الإسرائيلية التي رأت أن منابع الهجرة قد جفت وأن عدد سكان "إسرائيل" اليهود لا يتجاوز عددهم في نيويورك، وبالتالي فتح المجال لهجرة غير اليهود بحيث يتم تهويدهم حالياً.

كما يجري مع المهاجرين من دول الاتحاد السوفيتي السابق، فالرعب الديمغرافي هو ما يخيف "إسرائيل" حالياً وليس الصواريخ والحروب. فعدد الفلسطينيين في القدس الشرقية ما زال معادلاً لعدد اليهود، رغم ضخ مئات الألوف من المستوطنين في القدس الشرقية المحتلة، ورغم منع التوسع العمراني العربي وهدم المنازل. وحالياً يوجد في كل فلسطين تعادل في عدد اليهود والعرب، حيث يوجد قرابة خمسة ملايين فلسطيني مقابل 5,5 ملايين يهودي، وهذه النسبة تنمو لصالح العرب.

فبعد عقد من الزمن ستكون الأغلبية عربية في داخل حدود فلسطين التاريخية، ولهذا فإن ثمة هستيريا إسرائيلية تحاول تطبيق حل إقامة الدولة الفلسطينية على أصغر بقعة جغرافية في فلسطين، وبأكبر عدد من الفلسطينيين، وهو حل مرفوض فلسطينياً. في هذه الساحة، ساحة الحرم القدسي، جرت جولات عديدة من الصراع مع الاحتلال الذي ارتكب مجازر عدة منذ بدايته، ويمكن مشاهدة آثار الرصاص على أعمدة المسجد الأقصى قرب المنبر، وهو المنبر الذي احترق وأعاد الأردن بناءه طبق الأصل على مدى سنوات عديدة.

وهو ما يسمى منبر صلاح الدين، لكنه في الواقع منبر نور الدين زنكي فهو الذي أمر ببنائه وزركشته بطريقة غير مسبوقة، واستقدمه صلاح الدين بعد تحرير القدس. وبعد الخروج من المسجد الأقصى يمكن ملاحظة باب المغاربة المغلق، حيث تسيطر قوات الاحتلال عليه بالكامل وتجري حفريات بقربه لإقامة جسر معلق ضخم، وعند باب المسجد انهمك أحد الحراس في إسكات فتاتين ورجل يتحدثون الروسية والعبرية ويقهقهون بأصوات عالية، فهم من المهاجرين الذين يجري تهويدهم بالتدريج.

وعلى مبعدة من باب السلسلة كان هناك ضريح الشريف حسين بن علي، وفي الطريق إلى كنيسة القيامة هناك حجرتان كان يقيم فيهما صلاح الدين الأيوبي عندما يستريح من الحرب ومناوشة الفرنجة في غزة وعسقلان والرملة، لكن لم أعد أذكر مكانهما بالضبط، ربما لأن من يقاتل من أجل هذه الأمة ينسى ومن يخونها يخلد.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

البيان الإماراتية

www.islamweb.net