رحمك الله ياأستاذ الدنيا!!

07/01/2010| إسلام ويب

 قدري مع الموت صعب – والحمد لله على كل حال – فقد مات أبي وأمي رحمهما الله في أسبوع واحد، وأنا بعيد عنهما، عاجز عن الرجوع لأودعهما..

وماتت زوجي الغالية غرقا أمام عيني وعيون الصغار، وأنا عاجز أن أمد يدًا لإخراجها..

وها هو أبي الثاني العلامة العظيم.. الرباني النقي.. المحقق الأصولي.. المؤرخ الناقد.. المربي الأكاديمي.. الداعي الواعي الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب يلقى وجه ربه تبارك وتعالى وأنا على سفر بعيد عنه، لا أتمكن من العودة، ولا أن أطبع قبلة على جبينه الطاهر، قبل أن يسجيه أحباؤه قبره..

آآآآآآآآآآآآه يا أستاذي وأبي.. كم أوجعت قلبي، ونكأت عميق جرحي، وجددت لي مواجع الدنيا وآلامها وخداعها وعلقمها..

آسف قارئي الكريم.. فلقد جررت معي لأمر شخصي وعواطف ذاتية قد لا تهمك كثيرا..

لكن يهمك بالتأكيد ويهم كل نقي مثلك، وكل محب للكرام والمكارم أن يعرف من هو عبد العظيم الديب: أبي وأستاذي ومعلمي وموجهي وضابط حركة ذهني..

ألا تعرف من هو عبد العظيم الديب؟ يااااااااه.. إذن فلقد حرمت خيرا كثيرا والله، وكيف يُجهل من كان أنموذجا إنسانيا فذا لا يعرف غير الحب، والعفة، والنقاء، والبشاشة، والرقة، وحسن التقدير، والعلم، والمنهجية، والرفق سبلاً ينتهجها، وأخلاق يتحراها..

 

محظوظ أنا حين عرفته قبل ربع قرن، وكنت أتمنى لو عرفته قبلها بربع قرن آخر، إذن لكان لي مع الخير شأن وأي شأن.. لم أره منذ مطالع حياتي رغم أنه من قرية مجاورة لمدينتي نفسها - من كفر إبري/ زفتى غربية – وحول هذه المنطقة ذاتها خرج عدد من العلماء الكبار: سيد عسكر، وإبراهيم شعلان، ومحمد الجوهري، وعبد العزيز شرف الدين، وعبد الوهاب حواس، ومحمد السيد الوكيل، ومحمد أحمد الغمراوي، والعوضي الوكيل، ومصطفى عمرو السيد، وحسين الحداد، وآخرين..

 

وكيف لواحد من جيلي أن يعرف جيل عبد العظيم الديب: زميل وصديق القرضاوي، وصهر عبد المعز عبد الستار، وتلميذ الدسوقي العربي وعمر الدسوقي، وجليس العقاد ومحمود شاكر والطناحي؟!

 

المسافة الزمنية والعلمية بعيدة، والمنزلة أعلى، والفرق لا تجوز فيه المقارنة..

لكنه متواضع قادر على التعامل مع الشباب - أيام كنت شابا - يحسن تألفهم، وتقدير إمكاناتهم، واستفزاز ملكاتهم، وضبط حركتهم، وكفكفة غلوائهم، واستخراج ما عندهم من عسل مصفى!

 

هل تريد بعضا من أخباره.. أقسم أن مقالة أو مقالات أو كتابًا لن تفي بذلك، وأرجو ألا أحنث في يميني هذا.. لا أزكيه ، ولا أزكي على الله تعالى أحدا، بل أحسبه كما قلت!

لقد كان أنموذجا للرجل الحيي الذي تخدشه إشارة أو كلمة أو همسة أو سلوك أو موقف فيه سوء فهم..

 

وكان أنموذجا للرجل المترفع عن الدنيا، لا يهتم لها، ولا يطلبها، ولا يعرف أهلها، فقد عاش ومات حلس بيته ومكتبه وكتبه، لا يعرف غيرها، ولا يأبه..

 

كان ذا عشرين عينا مفتوحة، وعشرين قلبًا يقظًا، وعشرين عقلا نبيها، يتابع الإعلام العالمي متابعة دقيقة محللة متأملة، لكنه في الوقت ذاته كان يفر منه، لا يريده، ولا يقترب منه، ويبذل جهده في اجتناب الكاميرات والأضواء والشاشات والميكروفونات.

كان يقدر الرجال، ويعرف أفضالهم، ويذكر مواقفهم وأياديهم، ويذب عنهم، ويجلي ملامح خيرهم وشرفهم، لا يعرف العيب، ولا الغيبة، ولا الكلام عن أحد بسوء..

 

كان أستاذا في الفقه والأصول، مفتونا بالجويني إمام الحرمين، وأصدر كتبا في الفقه الشافعي، أحدها أكثر من 20 مجلدا كبيرا، ومع هذا كان يتهرب من الفتوى؛ تورعا وعفة، على خلاف ما يفعل الأغرار صغار العقول والأعمار!

 

كان مؤرخا غير عادي، يعتبر تاريخنا عرضنا، ومناط فخرنا، ويغضب غضبا شديدا إذا أحس أنه ينتهك أمامه أو يساء إليه، خصوصا من علماء ودعاة لا يهتمون بالتدقيق فيما يقرؤون ولا ما ينقلون، ووضع مناهج وضوابط لقراءة التاريخ والتعامل معه، صارت بعد ذلك منهجا لكثيرين، يترسمونها منهجا، ويختطونها خطة..

 

ولم يكن غارقا في التاريخ، بعيدا عن الواقع، بل كان يعيش الواقع بكل أبعاده: متأملا ومحللا وناقدا وموجها، فلا تمر قضية مما يهم المسلمين إلا كان له فيها رأي راجح وتوجيه سديد.

 

كان ذا قدرة عجيبة على اجتذاب الشباب، ومجالستهم، والبشاشة لهم، وممازحتهم، وإيناسهم، على اختلاف أعمارهم وقدراتهم وانتماءاتهم، كلهم يحبه، ويجله، ويقبل يده ورأسه.

 

لم يكن يغلق بابه دون زائر، ولا يشعره بملالة، مهما طال جلوسه، حى إنني خرجت من بيته ذات شتاء بعد الواحدة، وهو متشبث بي لا يريد أن أغادر..

 

نلت شرف الحج معه خادمًا له في حجته الأخيره قبل ثلاث سنين - وحدنا في الخيمة، ووحدنا في سيارة، ووحدنا في الطواف، ووحدنا في السعي، ووحدنا في كل شيء - وكان أن قصرت في زيارته في الفترة الأخيرة بسبب ظروف العمل، فكان إذا جئته بعد غياب، يقول عاتبا: ما ضر عثمان شيئا بعد اليوم.. لقد فعلتَ ما يمحو لك كل تقصير!

 

كان كاتبا رشيق العبارة، قصير الجملة، مركز المعنى، حسن التأتي، عفيف اللفظ، لا يسب، ولا يهاجم، ولا يسيء حتى لظاهري العداوة للإسلام، يتلمس لهم الأعذار، ويصطنع المخارج، رحمة، وإحسان ظن بهم..

 

عرفته محاضرا وباحثا وصديقا وابن بلد، ومخزن ذكريات، مليئا بما يدهش من الأخبار والأفكار والرؤى الشخصية والأشخاص الرائعين من كل المستويات: من فلاحي كفر إبري، وأساتذة معهد طنطا الأحمدي، ورجال دار العلوم القديمة، وعلماء الأزهر، ورجالات الإخوان، والدعاة الكبار، وأساتذة الجامعة، والإعلاميين، والكتاب، والمؤرخين.. وكان رحمات الله ورضوانه عليه نافذتي إلى كثير من الخير والبركة

 

آآآآآآآآآه.. جمعني بك الله يا شيخي في مستقر رحمته..

www.islamweb.net