مقدمة محور آيات الأحكام

04/06/2012| إسلام ويب

علم التفسير -كما لا يخفى- ملجأ لكل طالب معرفة في تبيان أحكام الشريعة. وقد تبلورت كتب التفسير تحت عناوين عديدة؛ فمنها ما هو متصف بالمأثور، ومنها متصف بالرأي، ومنها متصف باللغة، ومنها متصف بالبلاغة، ومنها متصف بالأحكام، ومنها ما هو متصف بغير ذلك. ولا نكاد نجد تفسيراً يجمع جميع الجوانب المتعلقة بالتفسير، ومن ثم كانت كُتب التفسير يكمل بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض.

ومن أنواع كتب التفسير، كتب أفردت لبيان آيات الأحكام على وجه الخصوص، ولا شأن لها في الآيات غير المتضمنة لحكم شرعي. نخصص هذه المقدمة للحديث عنها، فنقول: 

الغرض من معرفة آيات الأحكام

قال الشافعي رحمه الله: "إن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل لما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة". وقد رُوي عن الربيع تلميذ الشافعي، قوله: "قلما كنت أدخل على الشافعي رحمه الله إلا والمصحف بين يديه، يتتبع أحكام القرآن". وآيات الأحكام عموماً فيها صلاح الناس في أنفسهم، وصلاحهم في مجتمعهم. 

ولأهمية التمسك بآيات الأحكام علماً وعملاً، والعلم بأحكامه نصاً واستدلالاً، فقد ارتأينا أن نخصص محوراً خاصاً يتناول الحديث عن آيات الأحكام، التي هي في أغلبها أحكام فقهية عملية، وحرصنا -ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً- على ربط هذه الآيات بواقعنا المعاصر. 

المراد بآيات الأحكام

يقصد بآيات الأحكام: ما ورد في القرآن الكريم من الآيات القرآنية التي تتضمن الأوامر والنواهي والمسائل الفقهية، كآية حل البيع وحرمة الربا، وآية المداينة، وآية الرهن، وآيات تحريم شرب الخمر، والزنى، والقذف، والآية التي تبين فرائض الوضوء، وجواز التيمم عند وجد شرطه، وغير ذلك من الآيات التي تتضمن حكماً شرعيًّا بنصها، أو بدلالتها، أو بسياقها. 

عدد آيات الأحكام

أوصل بعضهم آيات الأحكام إلى خمسمائة آية، وهذا ذكره الغزالي وغيره، وتبعهم الرازي، ولعل مرادهم المصرح به، فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير. والثاني ما يستنبط مع ضميمة آية أخرى، كاستنباط علي وابن عباس رضي الله عنهما أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} (الأحقاف:15)، مع قوله: {وفصاله في عامين} (لقمان:14). 

وقد نقل السيوطي في "الإتقان" عن الشيخ ابن عبد السلام في كتابه "الإمام" قوله: "معظم آي القرآن لا تخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة، وأخلاق جميلة، ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط، إما بلا ضم إلى آية أخرى...وإما به". وعلى الجملة، فإن آيات الأحكام خمسمائة آية، وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك، إذا استقصى تتبعها في مواضعها. 

أهم من ألف في هذا الباب 

كان للمالكية قصب السبق في التأليف في آيات الأحكام، حيث بلغ عدد مؤلفاتهم (18) ثمانية عشر مؤلَّفاً، وبلغ عدد كتب الحنفية ثمانية كتب، وللشافعية كتابان، وللحنابلة كتاب واحد.

ويُعدُّ كتاب القاضي إسماعيل بن إسحاق البصري المالكي (أحكام القرآن) من الكتب المهمة في هذا الباب، وقد وصفه الخطيب البغدادي بقوله: "لم يؤلف مثله في هذا الباب"، وهو كتاب مسنَد كتفسير الطبري، وقد حوى أقوالاً كثيرة لمالك في التفسير، قال ابن جزي: "وقد صنف الناس في أحكام القرآن تصانيف كثيرة، ومن أحسن تصانيف المشارقة فيها تأليف إسماعيل القاضي، وابن الحسن كباه، ومن أحسن تصانيف أهل الأندلس تأليف القاضي الإمام أبي بكر بن العربي، والقاضي الحافظ بن محمد بن عبد المنعم بن عبد الرحيم، المعروف بابن الفرس". وقال الزركشي في "البرهان": "اعتنى بذلك الأئمة وأفردوه، وأولهم الشافعي، ثم تلاه من أصحابنا الكيا الهراسي، ومن الحنفية أبو بكر الرازي، ومن المالكية القاضي إسماعيل، وبكر بن العلاء القشيرى، وابن بكير، ومكي، وابن العربي، وابن الفرس، ومن الحنابلة القاضى أبو يعلى الكبير". وقال الشيخ رشيد رضا: "وقد جمع بعضهم آيات الأحكام، وفسروها وحدها. ومن أشهرهم أبو بكر بن العربي، وكل من يغلب عليهم الفقه من المفسرين، يعنون بتفسير آيات أحكام العبادات والمعاملات أكثر من عنايتهم بسائر الآيات". 

أهم مؤلفات آيات الأحكام

ومن أهم مؤلفات المتقدمين المطبوعة في هذا الباب ما يلي:

* كتاب أحكام القرآن للشافعي: جاء في مقدمة جامع الكتاب قوله: "فرأيت من دلت الدلالة على صحة قوله أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي...قد أتى على بيان ما يجب علينا معرفته من أحكام القرآن، وكان ذلك مفرقاً في كتبه المصنفة في الأصول والأحكام، فميزته وجمعته في هذه الأجزاء على ترتيب المختصر؛ ليكون طلب ذلك منه على من أراد أيسر". 

ومن أهم فصول هذا الكتاب فصل جاء تحت عنوان: "فيما ذكره الشافعي رحمه الله في التحريض على تعلم أحكام القرآن"، وفي هذا دلالة -أي دلالة- على أهمية الوقوف على آيات الأحكام، ومعرفة المراد منها، وأقوال العلماء فيها. 

* كتاب أحكام القرآن لابن العربي المالكي، وقد وصف هذا الكتاب ابن جزي بأنه من أحسن تفاسير أهل الأندلس. وذكر ابن العربي في مقدمة كتابه منهجه في تفسير آيات الأحكام، فقال: "فنذكر الآية، ثم نعطف على كلماتها، بل حروفها، فنأخذ بمعرفتها مفردة، ثم نركبها على أخواتها مضافة، ونحفظ في ذلك قسم البلاغة، ونتحرز عن المناقضة في الأحكام والمعارضة، ونحتاط على جانب اللغة، ونقابلها في القرآن بما جاء في السنة الصحيحة، ونتحرى وجه الجميع...ونعقب على ذلك بتوابع لا بد من تحصيل العلم بها منها، حرصاً على أن يأتي القول مستقلاً بنفسه، إلا أن يخرج عن الباب، فنحيل عليه في موضعه مجانبين للتقصير والإكثار". 

* كتاب أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص الحنفي، جاء في مقدمة المؤلف، قوله: "قدمنا في صدر هذا الكتاب مقدمة تشتمل على ذكر جُمَلٍ مما لا يسع جهله من أصول التوحيد، وتوطئة لما يُحتاج إليه من معرفة طرق استنباط دلائله، وإحكام ألفاظه، وما تتصرف عليه أنحاء كلام العرب والأسماء اللغوية والعبارات الشرعية؛ إذ كان أولى العلوم بالتقديم معرفة توحيد الله وتنزيهه عن شبه خلقه، وعما نحله المفترون من ظلم عبيده...حتى انتهى بنا القول إلى ذكر أحكام القرآن ودلائله". 

ولئن كان للعلماء المتقدمين اليد الطولى والأولى في تفسير آيات الأحكام، فإن للعلماء المتأخرين والمعاصرين خطوة موفقة في هذا الباب؛ حيث ذللوا الكثير من الصعاب لطلبة العلم، وكشفوا لهم عن مفاهيم جديدة مما أدى إليه اجتهادهم، ووقف عند عرضه جهدهم. نذكر من هذه الجهود الكتب التالية:

* نيل المرام من تفسير آيات الأحكام لمحمد صديق خان الهندي.

* تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي السايس، وهو من الكتب المعاصرة. ذكر محقق الكتاب أنه هذا الكتاب يُعدُّ من "المراجع المهمة في كتب الأحكام؛ إذ حوى جلَّ آيات الأحكام، فتناول المؤلف من خلال الآية استعراض الأحكام فيها..فكان كتاباً شافياً في حكمه، وعوناً لأهل العلم بتنوع الآراء مع الاستدلال، يُرجع إليه في موضع الحاجة". 

* روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني، وهو من الكتب المعاصرة أيضاً. جاء في تقديم الشيخ عبد الله خياط لهذا الكتاب ما نصه: "امتاز المؤلف في هذا التأليف بالصراحة والوضوح في تقرير الواقع الإسلامي في مفهوم آيات الأحكام، والرد على مزاعم بعض من شط به القلم من أعداء الإسلام...وكل ذلك من مشاكل العصر الحديث التي يجب الكشف عنها، وتقرير وجهة نظر الشرع فيها، تحدث عنها في صراحة تامة، ووضوح بعيد عن اللبس، لم يخش في ذلك عتب عاتب، أو لومة لائم؛ ليقرر الواقع الإسلامي الصحيح الذي يجب أن يذهب إليه المسلم". 

وجاء في مقدمة المؤلف، قوله: "جمعت فيه آيات الأحكام خاصة على شكل محاضرات علمية جامعة، تجمع بين القديم في رصانته، والحديث في سهولته، وسلكت في هذه المحاضرات طريقة ربما تكون جديدة ميسرة، وهي أنني عمدت إلى التنظيم الدقيق، مع التحري العميق، فتناولت الآيات التي كتبت عنها من عشرة وجوه..". 

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن كتب التفسير العامة تفرد حيزاً واسعاً للحديث عن أحكام القرآن، وفي هذا الصدد يُذكر كتاب "جامع البيان في تأويل القرآن" لشيخ المفسرين الإمام الطبري، حيث ضمنه جملة واسعة من الأحكام، حتى وصفه ابن العربي بقوله: "وأعظم من انتقى منه الأحكام بصيرة: القاضي أبو إسحاق، فاستخرج دررها، واستحلب دررها". وقل نحو ذلك في "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي

منهج استنباط آيات الأحكام

يستدل على الأحكام الشرعية من الآيات القرآنية تارة بالصيغة نفسها، وتارة بالأخبار، مثل قوله سبحانه: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (المائدة:96)، وقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (المائدة:3)، وقوله عز وجل: {كتب عليكم الصيام} (البقرة:183)، وتارة بما رتب عليها في العاجل، أو الآجل من خير، أو شر، أو نفع، أو ضر. وقد نوع الشارع في ذلك أنواعاً كثيرة؛ ترغيباً، وترهيباً، وتقريباً إلى أفهامهم، فكل فعل عظمه الشرع، أو مدح فاعله لأجله، أو أحبه، أو أحب فاعله، أو رضي به، أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة، أو البركة، أو الطيب، أو أقسم به، أو بفاعله...فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب. وكل فعل طلب الشارع تركه، أو ذمه، أو ذم فاعله، أو عتب عليه، أو مقت فاعله، أو لعنه، أو نفى محبته، أو محبة فاعله، أو الرضى به، أو عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم، أو بالشياطين...فهو دليل على المنع من الفعل، ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة.

وقد ذكر العلماء أن قوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف:31)، جمع أصول أحكام الشريعة كلها، فجمع الأمر، والنهي، والإباحة، والتخيير.

والمعهود من القرآن الكريم ختم آيات الأحكام بالمواعظ والعبر والتوحيد، قال الشيخ رشيد رضا: "مضت سنة القرآن في مزج آيات الأحكام العملية بما يرغب في الأعمال الصالحة، وينشط عليها، ويحفز الهمم إليها، وينفر من القعود عنها، والتكاسل والتواكل فيها". ونقل عن الشيخ محمد عبده في هذا الصدد قوله: "إن من سنة القرآن الحكيم مزج آيات الأحكام بآيات المواعظ والعبر والتوحيد; ليقرر أمر الحكم، وينصر النفوس على القيام به". والمثال على ذلك قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} (البقرة:275). 

ولا بد لمن يتصدى لاستنباط الأحكام من الآيات من أن يكون على دراية ومعرفة بقواعد أصول الفقه، فإنه من أعظم الطرق في استثمار الأحكام من الآيات؛ فيستفاد عموم النكرة في سياق النفي، من قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} (الكهف:49). وفي الاستفهام من قوله سبحانه: {هل تعلم له سميا} (مريم:65). وفي الشرط من قوله عز وجل: {فإما ترين من البشر أحدا فقولي} (مريم:26). وفي النهي من قوله تعالى: {ولا يلتفت منكم أحد} (هود:81). وغير ذلك من القواعد الأصولية التي لا غنى من معرفتها لكل من يتصدى لاستنباط الأحكام من الآيات القرآنية. 

وبعد، فإن الأمر الذي نحب أن نلفت النظر إليه، أن آيات القرآن الكريم كلٌّ متكامل، يكمل بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض، فآيات الأحكام ليست بمعزل عن آيات العقيدة، وليست أيضاً بمعزل عن آيات الأخلاق، وغير ذلك من الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم، والحديث عن آيات الأحكام تحت عنوان مستقل لا يعدو أن يكون أمراً إجرائياً، الغرض منه تيسير إيصال المعلومة المتعلقة بجانب الأحكام، وعلى الله قصد السبيل. 

www.islamweb.net