إثبـات النبـوات

06/08/2014| إسلام ويب

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رائعته إثبات النبوات : "ليست المعجزة هي الشرط الأوحد للنبوّة، فمُدعي النبوة إما أن يكون أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، وقد أسلم السابقون الأولون أمثال أبي بكر الصديق، وخديجة، والمُبشَّرون قبل انشقاق القمر، والإخبار بالغيب، والتحدي بالقرآن".

ويقول رحمه الله : (وكثيرٌ من الناس يعلم صدق المُخبر بلا آية ألبتة، وموسى ابن عمران لما جاء إلى مصر وقال لهم: إن الله أرسلني علموا صدقه قبل أن يُظهر لهم الآيات، وكذلك النبي لما ذكر حاله لخديجة وذهبت به إلى ورقة ابن نوفل، قال: هذا هو الناموس الذي يأتي موسى، وكذلك النجاشي، وأبو بكر علموا صدقه علماً ضرورياً لما أخبرهم بما جاء به وما يعرفون من صدقه وأمانته، مع غير ذلك من القرائن يوجب علماً ضرورياً بأنه صادق، وخبر الواحد المجهول من آحاد الناس قد تقترن به قرائن يُعرف بها صدقه بالضرورة، فكيف بمن عُرف بصدقه وأمانته؟ وأخبر بمثل هذا الأمر الذي لا يقوله إلا مَن هو أصدق الناس أو أكذبهم؟ وهم يعلمون أنه من الصنف الأول دون الثاني؟". (1)

يقول الأُستاذ علي عزت بيجوفيتش : "والقراءة المتأنيّة للأديان تُشعر أن هناك اتفاقاً مُسبقا تمّ في مكان ما بين موسى وعيسى ومحمد" أو بتعبير النجاشي: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة".

وفي تصنيف هيجل للأديان اعتبر الإسلام استمراراً لليهوديّة، وقالت مرسيا إليادي: "إن محمداً يقف على حافة سيادة المسيحية، وبداية العصر العلماني الحديث، بمعنى أنه يقف في النقطة البؤرية للتوازن التاريخي".

فالنبي محمد –صلى الله عليه وسلم- يأتي على مفترق طريق التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التحوّل الروحي للجنس البشري، وهذا ما قالته مرسيا إليادي في كتابها (أنماط الأديان المقارنة).

فالأنبيـاء ولا جدال قاموا بدورٍ رئيس في تاريخ الإنسـانية، ومن خلال الأنبياء فحسب أصبح الإنسـان محورا للتاريخ، ومن خلال الأنبيـاء فحسب تـأكّد سمو الإنسان وقيمته ومركزيّته.

ومنهج القرآن في إثبات النبوات هو أعظم المناهج وأنقاها بعيداً عن الطُرق الكلاميّة والفلسفيّة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولذا يعترف الرازي في آخر مصنفاته قائلاً: "لقد تأملت الطرق الكلاميّة والمناهج الفلسفيّة، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقةً: القرآن ومِن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".

نهاية إقدام العقــــــول عقـــــال وأكثر سعي العالمين ضــلال
وأرواحنـا في وحشة من جسومنا وغاية دنيـانا أذى ووبــــــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا (2)

وكما استخدم القرآن في إثبات وجود الله دليل العناية ودليل القصد ودليل الاختراع ودليل السببيّة،(3)وهي الأدلة السهلة الممتنعة التي لا تُقيم بعدها قولاً لقائل، فقد استخدم القرآن دليل التحدي ودليل المقارنة ودليل الإخبار بالغيب ودليل خرق العادة، وغيرها من الأدلة في إثبات النبوات مما هو مبسوطٌ في مواضعه.

وقبل أن يبدأ التحدي، لابد أن يمتلك القوم الذين أُرسل فيهم النبي ناصية ما يتحدّاهم بهم، ويكونون فيه المرجع -بل والحَكَم- حتى إذا ما انتصر عليهم كانوا هم الحاكمين على أنفسهم بالخيبة.

ولما سمع الوليد ابن المغيرة من النبي –صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} (النحل:90) قال : "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمُغدِق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر" فقد رق قلبه وقال: "والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا" ولذا اجتمعت كلمة وفود العرب على ألا يسمعوا للقرآن ولا يُسمعوه أهليهم، واعتبروا أن هذا هو السبيل الوحيد لمقاومة التحدي بمثل هذا القرآن: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت:26)، فقد جاء القرآن في درجةٍ من البلاغة لم يُعهد مثلها في تراكيب العرب، وكانت فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات والغزل والتغني بالأمجاد، وكان الشاعر الذي يتقن المديح يضعف عند غيره، والقرآن جاء فصيحاً في كل فنٍّ على نفس المستوى والنسق، وجاء القرآن للتأسيس لمنهج حياة في الاقتصاد والسياسة والعبادة، وما يُحسن الدين والدنيا، دون أن يخرج عن قالبه البلاغي.


يقول الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه النبأ العظيم ص 21 : "القرآن إذن صريح في أنه لا صنعة فيه لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزّل من عند الله بلفظه ومعناه، ومن العجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة، وهو أنه ليس من عند محمد".

في الحق أن هذه القضية لو وجدت قاضياً يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، وأي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة؟ أي مصلحة له كي ينسب بضاعته لغيره، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحداً يعارضه ويزعمها لنفسه، بل وشهد الرسول على نفسه بالعجز: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} (يونس:16).

ودعوة الأنبيـاء واحدة، ومنهجهم واحد، وسبيلهم واحد: { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} (فصلت:43)، غاية دعوتهم أن {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف:59)، غاية دعوتهم: "اسمع يا اسرائيل اعظم الوصايا الرب: إلهنا رب واحد" (4) أو بلفظ القرآن: {يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} (المائدة:72)، فالإسلام هو أنقى أديـان التوحيد كما يقول جوستاف لوبون.

والنبوة لا يقول بها إلا أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ولا يُلبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين كما قال شيخ الإسلام رحمه الله

___________________
1- ثبوت النبوات عقلا ونقلا ص 573.... شيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق د.محمد يسري سلامه دار ابن الجوزي
2- المرجع السابق ص 318
3- قام الشيخ نديم الجسر رحمه الله ببسط هذه الأدلة وشرحها بالتفصيل في كتابه الرائع قصة الإيمان
4- مرقص 12-29
 

www.islamweb.net