ميزان الثابت والمتغير في منهج الإسلام

19/02/2015| إسلام ويب

يوازن الإسلام منذ اليوم الأول بين الثابت والمتغير، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فلا يتحول الثابت إلى جمود، ولا يتحول التغيير إلى انفلات، ويجعل الإسلام الثابت هو الأساس، ويضع القواعد الثابتة، ويجعل التغير تابعاً ومحكوماً لها، ويظهر هذا في العديد من آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا شك أن الثابت كان وما يزال من خصائص الإسلام، التي تميز بها على سائر الملل والأديان، ولا شك أن تحديد الثابت والمتغير في الإسلام لم يكن من القضايا والأمور الشائكة في تراثنا الإسلامي العريق، كما أصبح عليه الحال في أيامنا هذه.

ومما هو معلوم من الدين بالضرورة أن الثابت في الإسلام هو مجموعة الأسس والحقائق التي لا بد من ثباتها، بما تشمله من أصول العقيدة وأركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، وما يتعلق بالله سبحانه من توحيده وإثبات أسمائه وصفاته وأفعاله، وإفراده بالألوهية والربوبية والحاكمية والعبادة، وأصول العبادات والمعاملات، ومكارم الأخلاق، وأن الإسلام هو وحده الدين المقبول عند الله سبحانه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وغيرها من أصول الإسلام التي يصعب حصرها، والتي منها وجوب الالتزام بأحكام الله تعالى وتشريعاته، وعدم جواز إقرار أي تشريع يخالف تشريعه سبحانه.

ولعل من أبرز المجالات الثابتة في الأحكام الشرعية: أن المصادر الأصلية للتشريع الإسلامي المتفق عليها محصورة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، وأن مقاصد الشريعة تتمثل في حفظ الضروروات الخمس، وهي الدين والنفس، والعقل، والمال، والعرض، ثم القواعد الفقهية الكبرى التي تنظم حياة الناس وتحقق لهم الخير، والتي منها (لا ضرر ولا ضرار) وغيرها. وكذلك الواجبات القطعية التي وجبت بأدلة قطعية ثابتة من القرآن الكريمة والسنة الصحيحة، مثل وجوب الصلوات الخمس، وغيرها، التي يمتنع الاجتهاد فيها، لأن القاعدة الشرعية تقول: (لا اجتهاد في مورد النص)، وكذلك المحرمات اليقينية، التي ثبت أدلة تحريمها القطعية مثل الزنا، وغيره، والمبادئ العامة التي تنظم حياة المسلمين التي أقرها الإسلام مثل إفراد الله بالحاكمية وغيرها، ومكارم الأخلاق المتفق عليها، وغير ذلك مما اصطُلح على تسميته بـ (المعلوم من الدين بالضرورة).

ومما ينبغي التنويه إليه أن هذا الثبات فيها في مثل هذه الحقائق والتعاليم وأمثالها ليس مطلقاً شاملاً، وأن المتغير الذي يكون في الفرعيات والأساليب ليس مطلقاً، ولا يمكن لأمةٍ من الأمم أن تحيا أو تقيم حضارة إذا كان كل شيء في حياتها ثابتاً كأنه قوالب جامدة، ولا يمكن أن تحيا كذلك إذا كان كل شيء في ثقافتها متغيراً، من هنا كانت أهمية التوازن الدقيق بين الثوابت والمتغيرات في أحكام الإسلام وتعاليمه، وكانت ضرورة تحديد المبادئ الثابتة، وبيان أن التغير إنما يكون في الفرعيات وفي الأساليب والوسائل، والوقوف على أهمية وجود التناسق بين الثابت والمتغير، وضرورة ضبط المتغيرات بالثوابت.

وحتى تتضح ملامح هذا التقسيم بين الثوابت والمتغيرات في الإسلام، لا بد من الوقوف على بعض المصطلحات التي تتمثل فيها معالم هذا الدين ويكثر تداولها في هذا الباب، ومنها مصطلح (الدين) الذي هو مأخوذ من الجذر دان يدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فلا يزاد في الدين ولا ينقص منه، وهو يشتمل على العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات، ولا شك أن مفهوم العبادة لا يقتصر على الشعائر كالصلاة والصوم والحج والزكاة، وهناك مرادفات لكلمة الدين الذي هو الطاعة والانقياد للشريعة، منها الإسلام والشريعة والملة، وتنوب هذه المصطلحات بعضها عن بعض، فالإسلام هو الانقياد والخضوع لأحكام الله تعالى، وقد يأتي بمعنى الدين، وبمعنى الإخلاص، قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] أما الشريعة فقد عرفها صاحب لسان العرب بما سن الله من الدين وأمر به، وعرفها الجرجاني بأنها الائتمار بالتزام العبودية، قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] والملة كالدين، قال تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة: 5] وهي ما شرع الله لعباده على لسان المرسلين، قال تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95].

ومما هو معلوم أن تعاليم الإسلام تتصف بعدة خصائص منها أنها ربانية، وأن فيها الشمول والكمال، والتوازن والاعتدال، والتطور والثبات، والإيجابية والواقعية، والوسطية وعدم التطرف، وأنها تصلح لكل زمان ومكان، ولكافة الناس، ومن مظاهر هذا التوازن أنها ليست ثابتة في كل شيء، ولا متطورة في كل شيء.

وإن هذا التطور الذي تتصف به بعض الأحكام هو الذي يجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وهو أمر لا بد منه في بعض المجالات والمظاهر، ولكنها في نفس الوقت جعلت هناك أساساً ثابتاً في تحديد معالم المتغير من الثابت، ليكون التحرك داخل إطار ثابت، وحول محور ثابت كما عبر ذلك الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابه خصائص التصور الإسلامي، فالمحور الثابت يتمثل في الحقائق الأساسية الثابتة، والإطار الثابت هو الحدود والأحكام، وهما أي - المحور والإطار - الحقائق والقواعد والأسس، والمبادئ والقيم التي جاء بها الإسلام وقررها، وجعلها ثابتة راسخة، ملزمة للناس في كل زمان ومكان.

ولا يعني هذا الثبات في تعاليم الإسلام وأحكامه بأي صورة من الصور الجمود أو محاربة كل جديد، فالحركة المتطورة في حياة المسلمين مستمرة، ولكنها حركة منضبطة، وهي دائماً تتم داخل إطار ثابت، وعلى محور ثابت، كما يقول سيد قطب ، وتكمن أهمية هذا الثبات في أنه يحافظ على حقائق الدين، ويحصن أفراد الأمة أمام أعدائها، ويحفظ لها هويتها، حتى لا تذوب وسط الثقافات والحضارات الأخرى، ويضع لأبنائها الميزان الذي يتحاكمون إليه.

ويبقى هذان العنصران - المحور والإطار -  لا يتغيران ولا يتبدلان ولا يتطوران، ويبقى التغير ضمن المساحة الواقعة بينهما، فتكون حركةً متوازنة متناسقة، يصفها سيد قطب بقوله: راشدة نافعة، مشدودة إلى المحور الذي يحركها ويوجهها، ومحكومة بالإطار الذي يضبطها وينظمها، فلا تخرج عن حدوده.

وتبقى الحركة داخل الإطار وحول المحور تتوجه إلى المتغيرات، التي تكون عادة في الظواهر والأشكال والجزئيات، والفرعيات والتفصيلات الثانوية التي هي غالباً ما تكون قابلة للتغيير، ولكنها تبقى دائماً محكومة بالإطار والمحور الثابتين.

أما أبرز المجالات المتغيرة في الأحكام الشرعية فتتمثل في الأحكام الفرعية المستمدة من نصوص ظنية الدلالة، مما يجعلها قابلة للاجتهاد، أو تلك النصوص التي تستمد من نصوص معللة بعلل خاصة، والتي تتغير بتغير الزمان أو المكان، أو الأحكام المبنية على قواعد العرف، والتي تتغير بتغير ذلك العرف، وكذلك الأمور التي تندرج تحت الكماليات والتحسينيات، وهي التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، مما يتعلق بمسائل فرعية، وأشياء غير ضرورية، إنما يفعلها الناس من أجل تحسين حياتهم، ورفاهية عيشهم. هذا والله تعالى أعلم.
 

www.islamweb.net